جنسان من العمل

جنسا عمل لا يجتمعان في وظيفة واحدة. فالكاتب الصحافي يُفنّد ويضع النقاط على الحروف، وبالتالي يصارح، سواء كان منحازاً أو حراً. والدبلوماسي ينقل موقف رئيسه وحكومته ويجامل. وبين الوظيفتين هناك الإعلامي الذي يسرح ويمرح في برامج المنوعات.
السلطات الرسمية في أي بلد تتحاشى تعريض نفسها لارتدادات أو تبعات آراء الكاتب، فلا تستعين به كسياسي أو دبلوماسي وهذا حقها. وعند استعانتها بالإعلامي، تتقصى آراءه المسكوت عنها، لكي تعرف ما إذا كان يلائم حكومتها أو لا يلائم. فإن لم تفعل ذلك، تخاطر، وسرعان ما تقع في مطبات فجائية تنجم عن رأي مُعلن. فلا يكفي أن يكون هذا الإعلامي نجماً في البرامج، لكي تمنحه وظيفة سياسية، توخياً للرواج وللإيحاء بأنها جاءت بـ”الفهمانين” الذين ينتشلون الدلو من البئر ويسقون حكومة بلد أضناها الضمأ إلى ماء عذب.
محسوبكم، كاتب هذه السطور، تعرض لأكثر من ارتداد بجريرة الدمج بين وظيفتين تتناقضان في المهام. كان وكيلاً في وزارة سياسية، ويكتب في الوقت نفسه عموداً يومياً في الصفحة الأخيرة من جريدة شبه رسمية. عمود رئيس التحرير إلى اليسار، وعموده إلى اليمين. وفي الحقيقة، كان رأي الكاتب السياسي يخالف توجهات السلطة لكنه يشغل موقعاً قيادياً فيها كوكيل وزارة. ولحُسن حظ السلطة أن الدبلوماسي الأميركي المخضرم جيفري فيلتمان كان قد حذّر سلطة الحكم الذاتي المحدود للغاية من مغبة إشراك الكاتب فلان في أي عمل رسمي، وإلا فإنه سيتصرف في حال شاهد ورقة يوقع عليها. لذا أصبح الأخير خالي شغل. فجيفري فيلتمان يقرأ ويكتب العربية والعبرية مع الفرنسية والمجرية، بخلاف الإنجليزية، وقد ابتُعث إلى المنطقة لكي يتابع الاتصالات كدبلوماسي في سفارة الولايات المتحدة في تل أبيب قبل ابتعاثه إلى العراق، ثم سفيراً لدى لبنان، ثم مساعداً لهيلاري كلينتون لشؤون الشرق الأدنى، وهو اليوم المبعوث الأميركي للسودان والقرن الأفريقي. ففيلتمان مستعرب ودارس للتاريخ، وكان يقرأ عمود الكاتبين حافظ البرغوثي وعدلي صادق. وبصراحة جاء طلبه منسجماً مع واجبات وظيفته، لاسيما وأنه يتابع كل كلمة، ويتحدث بلغة ناعمة، وقد أطلق عليه المسؤولون الفلسطينيون المتفائلون إسم الدلع “جيف” كأنه صاحبهم اللزم!
ولجهل الكاتب بالسبب الحقيقي لمنعه من ممارسة العمل والاكتفاء بالمكتب والدوام؛ اعتقد أن القرار صدر عن وزيره، فـ”دق” في عطوفته أو معاليه. ولتهدئته، صارحه أبوعمار بالحقيقة، فاعتصم بالصبر.
وعندما كان الكاتب سفيراً لدى الهند، حدث في ختام لقاء مع “سي.إن.إن” الهندية أن قالت له مقدمة برنامج “الحوار الساخن” إنها تختتم كل لقاء بسؤالين يكون الجواب عليهما بـ”نعم” أو “لا” فقط. كان السؤال الأول “هل تعترف بحق إسرائيل في الوجود”، فأجاب “لا”. استشاطت السيدة السائلة غضباً وردت بسؤال آخر “كيف وأنتم في داخل عملية سلمية مع إسرائيل؟”. قلت لها “اعترفي أولاً بأنك من أخلَّ بقاعدة السؤال وسأجيبك”. ردت بالاعتراف. عندئذٍ، شرح لها الكاتب الفارق الكبير بين الاعتراف بوجود إسرائيل، والاعتراف بـ”حق” إسرائيل في الوجود. فالثاني معناه أن كفاح الشعب الفلسطيني تاريخياً كان على باطل، وأن شهداء بلاده قاوموا حقاً للآخرين. وما هي إلا أيام حتى انفجر متسابق أميركي على الفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة بكلام ضد السلطة الفلسطينية التي “لا تعترف بحق إسرائيل في الوجود” حسب زعمه، ودليله على ذلك – كما كرر في خطاباته – ما قاله سفيرها لدى الهند!