جنائن بابل الخالدة وجسر اللغات بين البشر

أعتبرُ الأديب والمترجم الحقيقي باحثاً أيضاً، فالبحث فضيلة لما فيه من كشف واكتشاف في العالم وفي ذواتنا. مناسبة هذا الكلام دعوة تلقيتها للمشاركة في مهرجان شعري ألماني يطلقون عليه “إنتر-بوامز” للشعر ويشرف عليه الشاعر والمترجم الألماني المرموق هنس ثيل الذي طلب منّي مختارات شعريّة ليترجمها إلى لغة غوته ونيتشه. سعدتُ بذلك، لكنني، على عادتي، تساءلتُ عن سبب اختياري من بين الشعراء الفرنكفونيين في تونس لأكون ضيف هذا المهرجان.
وتحضني هذه الحال المستجدة على التساؤل: هل حقاً ما قيل من أن “الثّورات يقوم بها الشجعان وينتفع بها الجبناء”، وهؤلاء اليوم مع الحكومة الحاليّة ومن قبل، أي أيّام كتابة الدّستور، موجودون بقوّة لتمثيل أنفسهم ومصالحهم ومصالح أصحابهم من النخب الفاسدة. الواقع لا يكذب فهو سجلّ حيّ والنتيجة الجارية في المعاملات الثقافية التونسية تعبّر عن فشل ذريع وتمثيل مشين للثقافة في تونس التي لطالما وقع تغييبها من أجل الإعلاء من قيمة الأشخاص.
الأدب التونسي، أكان مكتوبا العربية أو الفرنسية، يكاد يكون غائباً عن العالم، ما يعني أنّ أيّ قارئ في أيّ بلد لا يمكنه التعرّف على أدبائنا وشعرائنا ومفكّرينا
والحال أنّ الأدب التونسي، أكان مكتوبا العربية أو الفرنسية، يكاد يكون غائباً عن العالم، ما يعني أنّ أيّ قارئ في أيّ بلد لا يمكنه التعرّف على أدبائنا وشعرائنا ومفكّرينا، لأنّ هؤلاء لا وجود حقيقيا لهم ولا حضور يليق بإبداعاتهم، وبالتالي لا أثر كبيرا لهم في المجتمع، وفي العالم، لأنّ مؤسّسات الدولة هي في خدمة مديريها وسياساتهم وحساباتهم الضيّقة، أكثر منها في خدمة الثقافة.
صدقت العبارة الإنجيليّة القائلة بأنّ “لا كرامة لنبيّ في قومه”، إذ يبدو أنّ قدر التونسي يتمثّل في أن يقع الاعتراف به في أوسلو وباريس ونيويورك وبرلين وغيرها من عواصم العالم، مرة بالمصادفة البحتة، وأخرى عن طريق فرصة سعيدة، وما أن يحصل شيء كهذا لكاتب شرقي مع الغرب حتى يبدأ بنو وطنه في الاعتراف به. يا لهذا الأمر المؤسف.
الواقعية الجرمانية
وبالعودة إلى مهرجان برلين الشعري المذكور، فكل ما تقدم من أسباب أعرضها وجدتني راغبا في معرفة دواعي هذه الدعوة التي تزامنت مع دعوة أدبية أخرى لي خلال شهر يوليو المقبل إلى “مهرجان سيت للشعر المتوسّطي”. على أنني أعفيت نفسي، هذه المرة، من طرح الأسئلة ذاتها لما لي من منشورات بالفرنسية شعرية ونثرية وحضور في الأوساط الثقافية لا غبار عليه في فرنسا شاعراً ومترجماً للشعر إلى بودلير ورامبو.
كان جواب المنظّمين الألمان واضحا لا لبس فيه، وهذا ما ذكّرني حقّا بعبارة شعبيّة تونسيّة تقول “إلّي سمّاك غناك”، أي أنّ للاسم كينونة وأنّه يولد ويكبر ويتطوّر وربّما يعيش بعد موت صاحبه.
ولقد تمتّعتُ باكتشاف ذلك من خلال تعرّفي على أناس ضاربين في الكفاءة حيث أنّ فريق “إنتر-بوامز” للشعر متكوّن من شباب مبدعين من ذوي المقدرة الفائقة على الجمع بين الخلق والتنظيم، بين ما هو مثالي ضارب في الحلم والتّخييل وبين ما هو أرضي وحياتي.
الألمان، من خلال واقعيّتهم وجدّيتهم اللّتين لا يتحدّث البعض عنهما إلاّ في سياق كرة القدم، يجمعون بطريقة رائعة بين احترام الإبداع المحض بما فيه من مغامرة وجنون، والمقدرة على التجريد من خلال عقلانيّة التّنظيم
حضور المرآة
البرنامج الذي نظم لي كشاعر ومترجم قام على فلسفة المرآة وطبيعة وجودها من خلالي كتابتي الشعرية. حاول المنظّمون والجمهور التعرّف على بعضهم بعضاً من خلال خصوصيّاتي، من جهة كأديب تونسي وعربي ناطق باللغة الفرنسية، وكمترجم من العربيّة إلى الفرنسيّة، وأحيانا من الفرنسية إلى العربية، ومن جهة أخرى كأفريقي ذي بشرة بيضاء يعترف ويحتفي بانتمائه إلى القارّة السمراء، كما يعتبر أنّ ثقافته المتوسطية جزء لا يتجزّأ من هويته التونسية. كلّ هذا، كما قيل لي موجود في أشعاري وكتاباتي، وهو ما جعلني أتعرف على جوانب أجهلها من نفسي وكتابتي من خلال مرآة القرّاء الألمان.
اختار فريق “إنتر-بوامز” قصائد لي مختلفة ومتناغمة في الآن نفسه، بين الهمّ الجمالي والهمّ التعبيري، وضمنا السّياسي والوجداني والعاطفي والروحانيّات. الجميل مثلا في قراءتي المتقاطعة مع مترجمي الشاعر هنس ثيل أنّنا اكتشفنا أنّه متأثّر بالحلاّج وأنّي متأثّر بالفيلسوف المتصوّف الألماني يعقوب بوهمه.
يبدو لي هذا التقاطع حظّا لا شكّ فيه، هو حظّ المسافر ونصيبه من المسافة المقطوعة بين تونس وبرلين، بين لغتي الإبداعيّة الفرنسية، ولغة الاستقبال الألمانيّة، بين قارّتي الأفريقيّة وإن كنت من سكّان شمالها، والقارّة الأوروبية، بين ثقافتي العربية والإسلامية القادمة من الشرق، وانتمائي إلى الغرب على الخارطة، وحتّى في نظرتي المشوبة بملامح من الثقافة الغربيّة للعالم. كلّ هذه التقاطعات من شأنها أن تحمينا من شرّ الثنائيات الخانقة، الثنائيات القاتلة.
أعلم أنّ الوقت سيمكّنني من استغلال ما لقّبته بالمسافة الألمانية التي ستكون مؤثرة في علاقتي بلغتي الإبداعية أي الفرنسية وبموطنها الأصلي أي فرنسا وخاصة باريس. فعلينا نحن الفرنكفونيّين المتعلّقين أكثر من اللاّزم بفرنسا وبعاصمة الأنوار باريس أن نعي أنّ الحضارات تتعاقب وتولد وتكبر وتموت كالبشر.
كاتب ومترجم من تونس