جميع سكان الأرض منخرطون اليوم في المغامرة ذاتها

يشهد عالم اليوم الكثير من التحديات التي ما انفكت تتعقد على الأفراد والمجتمعات والدول، وهو ما يحتاج إلى إعادة التفكير في نظم الحياة المعاصرة وطرق ترتيبها وتشكيلها، وهذه مهمة الفلاسفة قبل أن تكون مهمة أيّ مختص آخر، وفي هذا التمشي يأتي كتاب الفيلسوف تزفيتان تودوروف "أعداء الديمقراطية الحميمون".
يحكى أن ملك الفرس، خشايارشا أراد شن حرب ضد الأثينيين لتوسيع حدود مملكته وسلطته؛ وقبل اتخاذ قرار نهائي، طلب رأي مستشاريه. حاول أحدهم ويدعى أرتاباني ثنيه عن الذهاب إلى الحرب، فقال له “السماء تحط دائما من قدر من يتجاوز الحد. لذلك يحدث أن جيشا كبيرا قد يهزم من قبل حفنة من الرجال في بعض الأحيان، عندما تدفعه غيرة السماء، إلى الهلاك المذل عن طريق الرعب والرعد، ذلك أنها لا تسمح بالفخر لأحد سواها”. لم يستمع الملك إلى هذه المشورة الحكيمة فكانت العواقب كارثية بالنسبة إليه وإلى بلده.
هذه الحكاية رواها هيرودوت في استقصائه حالة غطرسة أدت إلى عواقب وخيمة، وأرودها المفكر والفيلسوف الفرنسي - البلغاري تزفيتان تودوروف في كتابه “أعداء الديمقراطية الحميمون” ليؤكد أن الخصم الأول للديمقراطية هو التبسيط الذي يختزل المتعدد بالفردي وبذلك يفتح الطريق أمام الغطرسة والغلو.
في كتابه، الصادر عن دار الفارابي بترجمة غازي برو، يناقش تودوروف التهديدات الداخلية للديمقراطية، النابعة من العناصر المكونة لها: التقدم والحرية والشعب، ويسلط الضوء على الحروب الحديثة وطغيان الأسواق وصعود الشعبويات من خلال نوافذ تاريخية تنقلنا من العصور الوسطى وصولا إلى القرن الحادي والعشرين، مؤكدا أن المخاطر الكامنة في فكرة الديمقراطية نفسها تنبع من عزل عناصرها وتشجيعها على نحو حصري. والجامع بين مختلف الأخطار هو وجود شكل من أشكال الغلوّ.
ويرى أن التقدم والحرية والشعب هي العناصر المكونة للديمقراطية، ولكن إذا انعتق أحد تلك العناصر من علاقته بالعناصر الأخرى، متجنبا بالتالي أيّ محاولة فرض حدّ ما، وفارضا نفسه كمبدأ فريد في نوعه، يتحول عندئذ إلى أخطار: وهذا ما تمثله الشعبوية والليبرالية المغالية والمسيحانية، وهي نزاعات معادية للديمقراطية في الصميم.
عدو الديمقراطية
يقول تودوروف “ليس من وهم أكثر استعصاء على التبديد من ذلك الذي يجعلنا نعتقد أن أسلوب حياتنا هو أفضل من الأسلوب الذي يعيش عليه آخرون في أماكن أخرى أو في أزمنة سالفة. صحيح أننا نؤمن اليوم بفكرة التقدم الخطي والمستمر، إنما لا يمنعنا ذلك من أن يحدونا الأمل في أننا نسير في الاتجاه الصحيح؛ لقد رأينا أن هذا المنظور كان متأصلا في المشروع الديمقراطي. بيد أننا لو صدقنا بعض المراقبين فإن عصرنا بعيد عن كونه تميز بعملية حضارية، بل إنه شهد حالة ازدياد في الوحشية وليس أدل على ذلك من وحشية القرن العشرين”.
ويضيف أن الوضع اليوم هو بالتأكيد أقل مأساوية، ومع ذلك لا يمكن القول إن الابتهاج هو الشعور السائد في الدول الديمقراطية. في أوروبا العام 2011، كانت المسألة المطروحة المنتمية إلى الاتحاد الأوروبي عن التوصل إلى اتفاق على السياسة التي اتبعها، في حين كان هذا الاتفاق يبدو ضروريا؛ أو على مسألة هشاشة العملة الأوروبية الفتية اليورو. يتصرف قادة هذه الدول في معظمهم مثل أفراد الأمة الذين اختاروا متابعة مصالحهم الخاصة وإهمال الدفاع عن المصلحة العامة. لذا يبدو أن الأمل في رؤية أوروبا “قوة هادئة” يقترب. أما الولايات المتحدة، فتؤثر حركة حزب الشاي في سياسة البلاد الداخلية والخارجية، في الاتجاه المعاكس للتضامن، وبات أيّ تدخل حكومي دعما للمصلحة المشتركة موضع شبهة.
ويلفت تودوروف إلى أن الحروب “الإنسانية” لا تثير مقاومة تذكر في البلدان التي تشنّها، لا بل تتمتع بسمعة طيبة لتصبح معيارا للتدخلات العسكرية الغربية، على الرغم من أنها تمثل انبعاثا للخلاصية السياسية من جديد. وعلى الرغم من الأزمات التي تتسبّب بها الأيديولوجية الليبرالية المتطرفة نراها لا تزال تهيمن على الدوائر الحكومية للعديد من البلدان. فالعولمة الاقتصادية تحرم الشعوب قوتها السياسية، ومنطق الإدارة الذي يفضي إلى تنميط للأذهان يشهد انتشارا في كل مكان. وعليه تزداد الشعوبية قوة وتنمو كراهية الأجانب مما يضمن فوز الأحزاب المتطرفة.
ويقول تودوروف إن “الديمقراطية تعاني الغلو الفاضح، والحرية فيها باتت طغيانا، والشعب أصبح كتلة يتم التلاعب بها، وتحوّلت الرغبة في تعزيز التقدم إلى روح صليبية. وبناء عليه، لم يعد الاقتصاد والدولة والقانون وسائل لتطوير الجميع، وهي تشكل الآن جزءا من عملية التجريد من الإنسانية. ويبدو لي، في بعض الأيام، أن هذه العملية لا رجعة فيها. إن العيش في ظل الديمقراطية هو دائما أفضل من العيش خانعين في دولة شمولية أو في ظل دكتاتورية عسكرية، أو نظام إقطاعي ظلامي. لكن الديمقراطية التي نخرها من الداخل أعداؤها الحميميون في رحمها، لم تعد تفي بوعودها”.
ويبيّن أن مظهر هؤلاء الأعداء لم يعد يخيف إذا ما قورن بأعداء الأمس، الذين هاجموا من الخارج ولم يخططوا لإقامة دكتاتورية البروليتاريا، ولا أعدّوا لانقلاب عسكري، ولا نفذوا عمليات انتحارية باسم إله عديم الرحمة إنهم يلبسون لبوس الديمقراطية، وبالتالي قد يمرون مرور الكرام؛ إلا أنهم يمثلون خطرا حقيقيا أقل شأنا: إذا لم تجر مواجهتهم بأيّ مقاومة؛ فإنه سيأتي يوم يفرغون النظام السياسي من مضمونه، إنهم سيقودون إلى دمار البشر وتجريد حياتهم من الإنسانية.
ويتابع تودوروف “نحن نفضل دائما أن نعتقد أن ما نقوم بإدانته هو غريب عنا تماما. والتفكير في أننا قد نماثل أولئك الذين عادة ما نمقتهم، أمر لا يطاق، إلى درجة أننا نسارع إلى إقامة جدران بيننا وبينهم نود أن تكون غير قابلة للاختراق. والحال، من دون الرغبة في الذهاب إلى الطرف الآخر والمزج بين الأنظمة السياسية المختلفة، فمن مصلحتنا الكلية الاعتراف بوجود إطار على نحو متوتر، إلى جانب المعارضات التي لا جدال فيها”.
ويبيّن أنه على غرار الديمقراطية، فإن الشمولية تدعي التفكير العقلاني والعلمي. إلا أنه لا يجب الخلط بين الديمقراطية وبين الاستعمار أو الشيوعية، ومع ذلك فإن ثمة ما يحرّك هذه الأنماط الثلاثة حتى الآن، يتمثل في الكثير من الأحيان بروح الخلاصية. وكان هذا التشابه مخفيا بفعل المواجهة العالمية بين البلدان الشمولية والبلدان الديمقراطية، التي كانت مهيمنة على تاريخ القرن العشرين، فالمعسكر السوفياتي، حيث الموارد الهائلة لبلد يعد شبه قارة، وضعت في خدمة الأيديولوجيا الشيوعية، فأصبح منافسا حقيقيا، لا بل عدوا حقيقيا، الأمر الذي أعطى شرعية للإصرار على الاختلافات: كان إمبراطورية الشر لا أكثر ولا أقل. وكان لانهياره في نهاية الحرب الباردة ميزة تحرير سكانه، ولكن أيضا سيئة حرمان القوى الغربية من قوة مضادة لسلطتها، كانت بمثابة كابح لتطلعاتها إلى الهيمنة. لقد خسرت في الوقت ذاته هذا الشريك المثبط الذي كان يشجعها عن غير قصد على أن تتصرف باستقامة حتى يتسنى إبراز ما يفرق المعسكرين.
ويرى أن ثمة ترددا ظهر في أعقاب انهيار الشمولية النازية، حيال اكتشاف علاقة مماثلة مع العدو. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والكشف عن جرائم النازية، ولاسيما التدمير، واستعباد شعوب بأكملها في معسكرات الإبادة والاعتقال، أراد الرأي العام الغربي دائما التأكيد على المسافة التي تفصلنا عن هذه الوحوش. وحتى اليوم، كان هناك احتجاج كلما راح مؤرخ أو روائي، أو مخرج يعير مرتكبي هذه الأعمال ذاتها دوافع قد نتقاسمها. فيعلن عندئذ أن إرادة الفهم أو حتى مجرد وضع الأحداث الماضية في سياقها هو بمثابة معذرة لها.
إن الاعتقاد بأن هتلر إنسان تجمعنا به بعض الصفات المشتركة يصدمنا. هذا الشر مخيف، لذلك نحن نفضل الاعتقاد بأن في الأمر شذوذا ووحشية بعيدين عن تاريخنا وطبيعتنا. ومع ذلك لم يفتقد المرء أصوات أقلية قائلة بما هو عكس ذلك، حتى لو كانت تحدوه رغبة أقل في الإصغاء إليهم.
لقد أشار جورج لاخمان موس أحد الاختصاصيين الأكثر تبصرا في تاريخ النازية في معرض التأمل الفكري للنازية، إلى أن العنصرية التي تكتنفها لها صفات مشتركة مع مذاهب أكثر تمتعا بالاحترام من ذلك بكثير، حيث قال “ليست العنصرية انحرافا للفكر الأوروبي أو فترات معزولة مجنونة، ولكنها جزء لا يتجزأ من التجربة الأوروبية”، ولقد ارتبطت بكل الفضائل التي لا تزال الأزمنة الحديثة تكيل لها الثناء”. وقد سعى الكاتب رومان غاري الذي قاتل في صفوف القوات الفرنسية الحرة خلال الحرب، للكشف، في كتبه الأولى، عن إنسانية تعدو، أو ما يعادل ذلك لا فرق، ألا وهي إنسانيتنا نحن. في روايته توليب التي نشرت في العام 1946 صرح العم نات، أحد زنوج حي هارلم “ما كان إجراميا في الألماني هو الإنسان”. وفي وقت لاحق، في النصف الطيب، يقول راتون الجزائري لصديقه لوقا “هل تعرف عدد الشلوح في العالم؟ ثلاثة مليارات”. يرى غاري أن ما يجب استدعاؤه ليست الأزمنة الحديثة وحدها لشرح النازية، بل التاريخ كله.
مغامرة مشتركة
يشير تودوروف إلى أن اكتشاف العدو الذي نستبطنه في ذواتنا هو أكثر إثارة للقلق بكثير من ذلك الذي نعتقده بعيدا ومختلفا بالكامل. طالما كان للديمقراطية عدو بشع، كالنازية أو الشيوعية الشمولية، فإنها كانت تستطيع أن تعيش متجاهلة ما يكتنفها من تهديدات داخلية؛ أما الآن فعليها واجب المواجهة. ما هي فرصها في التغلب عليها؟
ويقول “أنا لا أعتقد أن ثمة انقلابا جذريا ممكن الحدوث (ولا أعتقده مرغوبا فيه، في الواقع)، أو أن تكون الثورة حلاّ لجميع المشاكل. إن الطفرات الديمقراطية الحالية ليست من تأثير أيّ مؤامرة أو نيات خبيثة، لذلك من الصعب كبحها. إنها ثمرة تغيير مواقف مرتبطة في حد ذاتها بسلسلة تغييرات متعددة، مجهولة الهوية، خفية غير مرئية، بدءا من التكنولوجيا إلى التركيبة السكانية مرورا بالجغرافيا السياسية”.
ويضيف “لم يعد في الإمكان تعزيز الفرد وتمكين الاقتصاد، وإلغاء الروح التجارية في المجتمع بقانون يصدر عن الجمعية الوطنية، أو من خلال الاستيلاء على سجن باستيل جديد. لقد علمتنا تجربة النظم الاستبدادية أننا نسير نحو الكارثة لا محالة، إن تجاهلنا تلك الخطوط القوية للتاريخ. كما وأنني لا أعتقد أن مكمن الخلاص هو أيّ ابتكار تكنولوجي من شأنه جعل حياة الجميع أسهل. ثم إن التقنية أحرزت تقدما استثنائيا في القرن الماضي توا، ما أتاح سيطرة أفضل على المادة، ولكن التقدم ذاته كانت له نتيجة مفاجئة: إيقاظ الوعي بأنه لا يمكن للتقنية تلبية كل توقعاتنا أبدا. لا يكفي تحسين الأدوات إلى ما لا نهاية، بل يجب على المرء أن يسأل في الوقت ذاته عن الأهداف التي نريد بلوغها: أيّ عالم نرغب العيش فيه؟ أيّ نوع حياة نريد أن نعيش؟”.
♦ اكتشاف العدو الذي نستبطنه في ذواتنا هو أكثر إثارة للقلق بكثير من العدو الذي نعتقده بعيدا ومختلفا عنا
ويوضح “لذلك لست مؤمنا بأيّ من هذه الحلول الراديكالية. هذا التردد يؤدي أحيانا إلى الاستقالة والسخرية أو ما يسميه بعضهم عدمية، والاعتقاد بأن جميع أعمال البشر غير مجدية وأن العالم يسير نحو حتفه. إلا أن هذا ليس حالي. وإذ أتساءل عما إذا كانت مصادر هذا الاستعمار الذهني إيجابية بعد هذا كله، فإنّي أجدها في السلوك اليومي للأفراد الذين أجاورهم، وبصرف النظر عمّا قد أتصف به من سذاجة. الأفعال الأنانية، الاستبدادية والضارة ليست مفقودة أيضا، ولكن أرى هؤلاء الأفراد الذين تحركهم أيضا المحبة والإخلاص للآخرين، قريبين كانوا أو بعيدين، وكذلك شغف المعرفة والحقيقة، وحاجتهم إلى إنشاء معنى وجمال حولهم”.
ويشدد على أن هذه الانطلاقات تهم ليس فقط الحياة الخاصة، ومصدرها الصفات الأنثروبولوجية الملازمة لجنسنا، كما توجد في بعض المؤسسات أو بعض المشاريع الاجتماعية التي يستطيع بواسطتها كل من يسكن البلد أن يستفيد من عمل العدالة فيه، ومن نظام الرعاية الصحية، والتعليم العام، والخدمات الاجتماعية. متابعا “أنا لا أعرف كيف يمكن للطاقة التي تعبّر عنها تلك السلوكيات أن تنعكس مساهمة في تغيير الاتجاهات الرئيسة للسياسة الراهنة، إلا أنني لا أتصور أنها ستبقى على الدوام من دون عواقب”.
ويضيف تودوروف “نحن جميعا سكان الأرض منخرطون اليوم في المغامرة ذاتها، محكومون بالنجاح والفشل معا. حتى إذا كان كل فرد عاجزا أمام ضخامة التحديات، يبقى أن هذا الواقع صحيح: التاريخ لا يخضع لقوانين ثابتة، والعناية الإلهية لا تقرر مصيرنا والمستقبل يعتمد على إرادات الإنسان”.