"جلال الدين" فلسفة قبول التفاوت في الألوان والأعراق والأديان

من جلال الدين الرومي، أحد أهم رموز الصوفية، استوحى المخرج المغربي حسن بنجلون عنوان فيلمه السينمائي وموضوعه، حيث يقدم لنا عملا سينمائيا صوفيا، ينشر قيم الحب والصبر والتسامح والتضحية وحب الذات، في مواجهة الأزمات وسلطة القضاء والقدر.
يخوض المؤلف والمخرج المغربي حسن بنجلون في فيلم “جلال الدين” مغامرة سينمائية مختلفة، تستحضر عوالم الصوفية لتروي قصة مستوحاة من الواقع اليومي، والتحديات التي تواجه الأشخاص في التعامل مع الأزمات والمشكلات الكبرى. الفيلم من بطولة النجمين المغربي ياسين أحجام والممثلة التونسية فاطمة ناصر، إلى جانب الممثلة فاطمة الزهراء بلادي.
تروي القصة رحلة روحانية في حياة شخصية تُدْعَى جلال الدين، رجل يرفض الاستسلام لألم فقدان زوجته، ويتخذ قرارًا فريدًا بالانعزال عن العالم الخارجي بهدف استكشاف النور الداخلي. بعد مضي عقدين من الزمن يتحول جلال الدين إلى معلم صوفي يعيش حياة هادئة بصحبة تلاميذه، ويستمتع بجمال الوجود وحكمة التجربة الروحية مما يجسد روحانية الحبكة السينمائية من التغيير الداخلي إلى اكتساب الحكمة.
سينما شاعرية
تتداخل الفنون السبعة في هذا العمل الروحاني لتروي قصة مؤثرة تجذب الانتباه، وتثير الاهتمام من خلال حكاية حب فريدة تجمع بين هبة التي لعبت دورها الممثلة التونسية فاطمة ناصر وجلال الدين الذي لعب دوره الممثل المغربي ياسين أحجام، ويتبين أن هبة التي كانت يتيمة في سن السابعة عشرة اختارتها الحياة رفيقة دربه، واتخذته رفيقًا حيث واجها سويًا تحديات الحياة.
يُقدم الفيلم تجربة مختلفة للمخرج حسن بنجلون، حيث يظهر ذلك في تقنيات المكياج والديكور والموسيقى التصويرية التي اعتمدها ليخلق أجواءً متناغمة تأسر الجمهور، وتنقله إلى عوالم صوفية مختلفة عما نعيشه اليوم.
تعبر هبة عن استعدادها للاحتفال بفرح جلال الدين دون أي شكوى، مما يضفي على شخصيتها طابعا رفيع المقام يحمل في طياته سيدة ذات طابع صوفي عميق تؤمن بتجاوز التجارب الحسية واستمداد السعادة من خلال الروحانية واليقين العميق بالله.
استعمل المخرج بنجلون في هذا الفيلم أسلوب الشاعر الراوي في المشاهد التي تقوم فيها هبة بتوثيق تفاصيل حياتها اليومية في دفتر صغير تعبر فيه بأسلوب شعري عن إحساسها وأفكارها، مما يضيف إلى القصة بُعدا أدبيا يفتح أبواب التأمل والتفكير العميق.
وتبرز الأحداث اللاحقة في الفيلم تصوّرًا تفاعليًا لمواضيع عميقة ومعقدة، حيث يمزج بين الشخصيات والخلفيات في سياق فني يثير تساؤلات حول الفلسفة الصوفية التي تتغذى من الحكم والتأملات الصوفية المستمدة من كتابات وشعر العارف الكبير جلال الدين الرومي.
ينعكس تأثير هذه الفلسفة بعمق في ذروة الفيلم، وذلك بفضل التركيز على حوارات الشيخ مولاي عمر الذي جسده بإتقان الممثل القدير عزالعرب الكغاط، مما يتبعه تحوّل جلال الدين نحو الطريق الصوفي بعد اعتناقه لهذه الفلسفة.
بفضل رؤيته الإخراجية المختلفة وكتابته السينمائية النيرة يظهر أسلوب المخرج كعمل فني يأخذنا في رحلة فريدة، يكشف فيها عن أبعاد جديدة من الإبداع السينمائي من خلال اكتشاف أعماق شخصية جلال الدين الذي يتقاطع مصيره مع امرأة تعمل في مركز التدليك كواجهة تغطي كواليس الدعارة النظيفة التي تديرها شخصية يعكس اسمها حقيقتها تُدْعَى فضيلة وتقوم بقيادة فتيات صغيرات يتيمات حيث تعنى بتربيتهن وتعليمهن كيف يرضين زبائنهن.
وتألق الممثل ياسين أحجام في دور جلال الدين بتجسيده جوانب متعددة ومعقدة إذ يظهر كرجل ثري يتسلق قمة النجاح بفضل ممتلكاته الفاخرة الناتجة عن تربية الخيول، يعيش حياة سعيدة برفقة حبيبته المخلصة هبة. ويتجسد حب جلال الدين على وجه غامر حيث تكون فكرة اقتراب موتها، بسبب مرض خطير، أمرا غير مقبول لديه رغم رضائه بالقضاء والقدر.
وتظهر شخصية ربيعة، التي تؤديها فاطمة الزهراء بلادي، بطريقة تلمس إعجاب جلال الدين بها، وتشير إلى تطوّر العلاقة بينهما إلى مستوى محظور، ورغم ذلك نشاهد فيما بعد تكسير هذا “التابو” مع ظهور لقطات في “شرائط فضيلة” تكشف عن علاقة جنسية بينهما.
يبرز المخرج استخدام اللغة الجسدية على وجه معمق لتعزيز قوة اللغة البصرية في توجيه الحبكة الدرامية، ويعكس هذا الاستخدام الفني العميق عمق العلاقات الإنسانية وتأثيرها على الحبكة العامة للفيلم، خاصة في المشهد الذي يصف اللحظة التي يقع فيها عادل في حب ربيعة، ويتزوجها رغم معرفته بماضيها.
وعندما يتجاوز عادل الصعوبات ويختار الارتباط بربيعة يكون تصرفه رمزًا للتسامح والقدرة على قبول الماضي والرضا التام عن الواقع الذي شاهدناه من خلال لغة جسدية تعكس إصرار عادل وثقته في قراره، ويمكن أن يتجلى ذلك في تصرفاته، مثل الوقوف بكل ثبات أمام التحديات واعتماد الابتسامة التي تعكس السعادة والتفاؤل.
لغة جسدية معبرة
استخدم المخرج أيضا تقنية الفلاش باك لتسليط الضوء على مشهدين متناغمين ومرتبطين زمنيا في العمل الفني، حيث يبدأ المشهد بوصول جلال الدين إلى الزاوية الصوفية لمولاي عمر ويظهر تأثير اللحظة المفصلية في حياته، ويتم الرجوع إلى الماضي لكشف مسار جلال الدين نحو هذا المفترق الحيوي لإبراز رواية تفاصيل هامة تكشف عن تطور شخصيته.
وتنقلنا التقنية إلى المستقبل بعد عشرين عامًا عند ظهور عادل الذي تزوج ولديه ابن يحمل اسم وليد، وهذا الابن حفيد جلال الدين، ويُلمح الفيلم إلى إمكانية أن يكون هو ابن جلال الدين نفسه، مما يُضفي على القصة طابعًا غامضًا ومفتوحًا، وهذه اللقطات تحسب للمخرج لأنه زعزع التتابع الزمني للأحداث من خلال إعادة التفكير في المشاهد من أولها.
في المشهدين المفتوحين يبرز الفيلم تباينًا واضحًا في استخدام الألوان مما يعزز التطور العاطفي في تكوين اللقطات التي شهدت تغيرات في العلاقة الزمنية المحتملة بين جلال الدين وربيعة بعد رحيل هبة، وهذا يخلق اضطرابا في روح جلال الدين، حيث يتخيل مشاهد زوجته وربيعة في الوقت نفسه، وهو يخوض في غمار زاوية الشيخ الصوفي مولاي عمر الموجودة في ريف جميل بعيد عن صخب المدينة.
بفضل رؤيته الإخراجية المختلفة وكتابته السينمائية النيرة، يظهر أسلوب المخرج كعمل فني يأخذنا في رحلة فريدة
المشهد الأول اعتمد على حوار ربيعة حيث كشفت لجلال عن مأساتها كضحية للاستغلال على يد فضيلة، ويأتي المشهد الثاني في متتالية متناغمة ويبرز أن ربيعة كانت السبب في إبلاغ الشرطة عن فضيلة والفتيات، مما أدى إلى اعتقالها وقضائها خمس سنوات في السجن.
عند خروج فضيلة من السجن تزداد رغبتها في الانتقام أو استعادة سمعتها، ولكن كان من الممكن أن يكون المشهد أكثر اتساقًا لو اقتصر على تسليط الضوء على ابتزاز ربيعة واستغلال زواجها من عادل الثري، دون إدراج تفاصيل تؤثر في تفسير الشخصيات وتوجيه المشاهد نحو فهم أعمق للحبكة القصصية.
تتألق التقنيات البصرية والصوتية في إيجاد تجربة سينمائية لا تُنسى، مستخدمة فنيات تُعزز التفاعل العاطفي مع شخصية حفيد جلال، وليد في استكشاف تاريخ جده وقراءة كتبه، على الرغم من نية التخلي عن دراسته للسفر إلى الهند بحثًا عن اليقين الروحي، ويقرر في النهاية الانضمام إلى جده ليبقى معه في العزلة التي اختارها. ويقدم وليد أفكار جلال الدين الرومي حيث يعتنق فلسفته في قبول جميع البشر بغض النظر عن التفاوت في الألوان والأعراق والأديان، مؤكدًا على وحدة الوجود والتواصل المباشر بين الإنسان والخالق.
تتجلى التطورات في الشخصية الرئيسية من خلال الإضاءة والألوان، خاصة خلال لقطات الرقص الصوفي مما يعكس رحلتها العاطفية والروحية، والهيبة التي يظهرها جلال الدين كشيخ في الطرق الصوفية ورغبته في التعبير عن رؤيته للتسامح، ليس فقط من خلال فلسفة الرومي، بل أيضًا من خلال استخدام الموسيقى الروحية والذكر والأشعار والغناء كوسائل للوصول إلى مستويات أعلى من الروحانية والرغبة في التواصل مع الله.
ويُظهر المخرج حسن بنجلون براعة في توجيه هذه المشاهد بأسلوب فني، حيث يحقق توازنًا فنيًا في تنوع اللقطات والزوايا. ويلمح في أحد المشاهد على نحو لافت إلى استياء البطل من التطرف الإسلامي الذي يؤثر في بعض الشباب. كما تبرز اللقطات الرمزية في الفيلم بفاعلية عبر استخدام المخرج لغة بصرية تعبيرية، لاسيما في الصراع بين فضيلة التي تجسد الشر على الرغم من رعايتها للفتيات اليتيمات، وبين عادل الذي يتجاهل الجانب الروحاني، وتوضح المشاهد الأخيرة كيف تدمر فضيلة حياة عادل عندما تكشف له عن تسجيلات فيديو تم تصويرها في الماضي تجمع بين ربيعة وجلال الدين.