جدارية عملاقة للفنان المصري عمّار أبوبكر مناهضة للجهل

الدورة الثالثة للملتقى الدولي "شكري بلعيد للفنون" انعقدت تحت شعار "الثقافة والفن في مجابهة للعنف".
الاثنين 2020/03/02
جموعة متنوّعة من التوجهات الفنيّة

تونس ـ اختتمت في تونس الدورة الثالثة للملتقى العالمي "شكري بلعيد" للفنون في منطقة جبل الجلود التونسيّة، والتي عُنِيَت خصيصا بفنّ الرسم على الجدران وفن الغرافيتي في شوارع وأزقّة مسقط رأس الشهيد شكري بلعيد الذي اغتيل قتلا بالرصاص سنة 2013 من قبل مجهولين.

ضمت التظاهرة عددا كبيرا من المشاركين من تونس ودول عربية وأجنبية كمصر والمغرب والبحرين والكويت ولبنان والأردن والسودان والبرازيل والهند وتركيا وإيران. أَنجز خلالها الفنانين مجموعة كبيرة من الرسوم الحائطية والغرافيتية، ولكن ما ميّز هذه الدورة فعلا هي الجدارية العملاقة التي إنجازها المصري عمّار أبوبكر والتي تطلّبت منه عملا ومدّة مضاعفين، الأمر الذي جعله يستمرّ في العمل لعدّة أيّام وحيدا بعد انتهاء الملتقى.

في زيارة لموقع إنجاز جداريته استغربنا إصرار الفنان على العمل المتواصل متجاهلا كلّ الظروف التي تمنعه من ذلك، طرحنا عليه لاحقا بعض التساؤلات التي تهمّ عمله وفنّه فكان لنا معه الحوار التالي:

العرب: لقد انتهى الملتقى منذ أيّام، ألا يجدر بك الاكتفاء بما أنجزته إلى حدّ الآن؟

عمّار أبوبكر: "هذه هي خاصيّة الأعمال الجداريّة العملاقة، لم أبتدع شيئا جديدا. لقد جهزت نموذج عملي ودرست الوقت الذي يتطلب إنجازه بكلّ دقّة، بالإضافة إلى أنّني طلبت من المنظمين الأدوات التي أحتاجها قبل مجيئي بمدّة وطمأنوني حينها بسير الأمور على ما يرام. تطلّب عملي اشتغالا متواصلا طوال مدة المهرجان من 4 إلى 17 فيفري واستغلال كامل ساعات اليوم الواحد مع توفر أساسيّ للرافعة، الأمر الذي لم يتم لأنّ المسؤولين لم يتعودوا التعامل مع رسامي الجداريات الحقيقيّة، وهو ما أخّر عملي وإقامتي وذلك للضرورة التي يقتضيها استكمال رسم تفاصيل الجداريّة. أنهيت عملي (23 فيفري) ومستعدّ للمغادرة مطمئن البال، لم يكن يمنعني من ذلك غير تلك التفاصيل الدقيقة التي كان لزوما عليّ إظهارها، فلا معنى للمشهد الذي في الصورة من دون كلّ تلك "الأشياء الدقيقة" التي ستخاطب المارة مستقبلا، وهذا كلّ ما يهمني هنا".

الفنان المصري يرسم مشاهد فيلمه على جدران متناثرة في كلّ أنحاء العالم
الفنان المصري يرسم مشاهد فيلمه على جدران متناثرة في كلّ أنحاء العالم

العرب: تريد أن تقول "يقولون الظروف أقوى، وأنا أقول الإصرار أقوى" على حدّ قول تشي جيفارا؟

عمّار أبوبكر: ليست مسألة إصرار، بل مسألة مبدأ العمل، لا ينفع أن أقدّم عملا غير مكتمل، كان الأمر محسوما مسبقا، لا شيء ولا أحد سيمنعني من تحقيق ما جئت لانجازه، فالعمل إمّا أن يقول كلمته أو فليصمت منذ البداية. ومبدأ عملي هو الضخامة والدقّة في الإنجاز مثل اللوحة تماما التي يمكن أن لا تنتهي أبدا. أنا ملتزم إزاء الخطاب الذي يقدّمه الفنّ في صور. هذا كلّ ما في الأمر.

العرب: ألا ترى نوع من الفوضى في كثرة الجداريات المنجزة؟

عمّار أبوبكر: أعتقد أنّ الملتقى ضم مجموعة متنوّعة من التوجهات الفنيّة المهمّة التي أنجزت أعمالا هامة بصفة متفرقة، ولكن ما كان ينقص التظاهرة هو التنسيق بين الفنانين، ربما كانت النتيجة أفضل لو اشتغلنا في مجموعات وأنجزنا أعمالا أقلّ في العدد وأكثر أهميّة في الدلالة. 

العرب: دعنا من كلّ ذلك، ولتحدّثنا عما ترسمه؟

عمّار أبوبكر: ما أرسمه على الجدران هي مشاهد مقتطفة من فيلم أشتغل عليه منذ سنتين بصفة مستقلّة مع أصدقاء لي يحمل عنوان "مُعَطّرًا بالنعناع"، وقد أنجزت جداريتي الأولى بامستردام سنة 2018 على بناية من عدّة طوابق. يصوّر الفيلم كلّ الأوضاع التي آلت إليها حالة الشباب بعد الثورات العربيّة. نتحدّث عن الأحلام والكوابيس والفقر والجوع والحاجة والعجز والإحباط والضياع وعن الساسة والفاشلين والمتآمرين والوصوليين والكاذبين وغيرهم. يرتبط عملي بالسكن في الأمكنة المُخدّرة من الوعي وتضخيمها إلى الحدّ الذي يستحيل معها التجاهل أو النسيان، لذلك فأنا أختار مشاهد داخل غرف وزوايا محصورة حتى لا تتوه الذكريات والأحلام مع نفث الدخان. إنّني أُمعن في تضخيم صور واقعيّة محرجة لفئات مُدَمَّرة أنهكتها الحياة وأكاذيبها. تبدو الغرف والأمكنة التي أصوّرها كأنّها أضرحة أو مقامات عبر التفاصيل التي أضيفها في كلّ مرّة داخل المشاهد. أعمل باستمرار على مزج المتناقضات داخل المكان الواحد ليبدو الوضع غريبا كما هو حال الواقع. وأقوم قصدا بتجميع وتركيب جزئيات داخل الرسوم غير موجودة في الفيلم أهمّها الطوطم.  

حدّثنا عمّار عن حُلمه الرائع برسم مشاهد فيلمه على جدران متناثرة في كلّ أنحاء العالم وعن طوطمه المحرّم الذي سيخلّد ذكرى فنّه في كلّ مكان. يؤكّد أنّه لن يفوّت كلّ فرصة ستسنح له لترك مشهد "مزعج" حُرم من إنجازه في موطنه، لذلك يعتبر كلّ جدار جديد هو وطنا يمارس فيه حرّيته المكبّلة "هناك".

يقدّم صورا لشخوص يمكن التعرّف عليهم بسهولة، هي شخوص كونيّة، يقول "أليست المعاناة كونيّة؟". يدعونا إلى الدخول في أمكنته القاسية والشريرة لذلك يفضّل أن تكون بصمته "طوطميّة" لأنّ عقيدته هي الالتزام. "لم نكن مع السياسة ، لقد كنا مع الثورة، -يقول عمّار-، مع أنّني لم أفهم بعد معنى الثورة، ربما هي كل تلك الأحداث التي جعلتنا نتوهّم أشياء لا تلائم سياسة مجتمعاتنا العربيّة. لذلك فأنا اليوم أستغلّ فرصتي الثمينة في التعبير عن احتجاجي على هذا الجدار وعلى بعد خطوتين من "هناك" حيث لا فرصة في التعبير أو الرسم. أنا مصرّ على الكلام لذلك حين تأتي الفرصة فيجب أن أتكلّم جيّدا فأنا في بلدي محبوس وممنوع عن قول وفعل أبسط الأشياء. وفي الحقيقة لا يهمني المسؤولين أو المنظّمين ولا غاياتهم الساذجة والمفضوحة، ما يهمني هي الرسالة التي أحملها وعليّ تبليغها".

ذكّرنا عمّار بالازدواجيّة التي تعيشها مجتمعاتنا بين المعرفة والجهل، وبالهوّة بين الفنّ والسياسة. يؤكّد أنّ الالتزام بالعمل الفنّي لا يمكن أن ينفصل عن الرسائل الشريرة والمزعجة التي يحملها المبدع ضدّ المسؤولين ومدّعي الثقافة وضدّ الجهل بكلّ الصوّر المشفّرة. يعترف لنا أخيرا أنّه سيكون ساذجا إن لزم الأمر في سبيل إتمام عمله، ألم يقرّ أفلاطون بأنّ الحكمة تكمن في المكر.