جاي رائدة الرسم بالحبر الصيني في معرض باريسي

حتى نهاية شهر أبريل القادم، ينظم مركز بومبيدو بباريس معرضا فنيا للرسامة التايوانية الشهيرة يوان جاي، التي تستلهم أعمالها من التقاليد الفنية الصينية القديمة ومن الفن الكلاسيكي الأوروبي لتقدم سردية ثقافية متضافرة.
ولدت الفنانة التايوانية يوان جاي عام 1941 بمدينة شونغكينغ في الجنوب الغربي للصين، وكان أبوها عسكريا مقرّبا من الزعيم تشانغ كاي شيك، فلما نشب الخلاف بين هذا الزعيم وزعيم الصين الشعبية ماو تسي تونغ، انتقلت الأسرة إلى تايوان عام 1947.
هناك درست الفنون الصينية في قسم الفنون الجميلة بجامعة تايوان، ثم سافرت إلى بلجيكا لدراسة تاريخ الفن في الجامعة الكاثوليكية بمدينة لوفان، حيث حصلت عام 1966 على شهادة الماجستير في علم الآثار وتاريخ الفن، ثم صيانة المعالم الثقافية في المعهد الملكي للتراث الفني ببروكسل حيث حازت شهادة الدكتوراه عام 1968.
وبعد دراسات إضافية في المتحف البريطاني وعدة معاهد أميركية في الفن الزخرفي، والفن الجديد، والتيارات الطلائعية كالتكعيبية والسريالية، عادت إلى تايوان حيث عملت في قسم الصيانة بالمتحف الوطني لقصر تايبي قبل أن تصبح مديرته لمدة ناهزت الثلاثين عاما.
فكانت محاطة بأعمال كبار الفنانين الصينيين، ممّن أبدعوا في النحت على اليَشْب، والرسم على الخزف والأنسجة، ما ترك فيها أبلغ الأثر، حينما انصرفت إلى الممارسة الفنية، حيث استوحت أعمالها من نماذج تقليدية كثيرة، وتأولت تلك التقاليد المرئية بإضفاء عناصر هندسية وألوان حامية. ولا تزال تواصل إبداعاتها في تايوان حيث تعيش رفقة زوجها السينمائي رتشارد ياوشي شن، رأس الموجة التايوانية الجديدة.
في لغتها البصرية أشكال متأتية من التراث الصيني والأعمال الأوروبية التي درستها خلال إعداد رسالتها الجامعية، إضافة إلى تجاربها الشخصية واليومية. فهي تستعمل عناصر من الفنون الصينية القديمة. ولكنها لا تتبع القواعد التي تفرضها تلك التقاليد، بل تتأول الفن الصيني بكيفية عابرة للقومية، فلا تلتزم بالقواعد التاريخية للفن التي ترتهن للمراكز الأوروبية الأميركية.
أنتجت يوان لوحات كبيرة الحجم باستعمال الحبر على الحرير، وهو المحمل الذي تفضله لسلاسته وطاقته على تحمل ثقل الألوان التي تحصل عليها من الأصباغ المعدنية كالأزوريت (فحمات النحاس الطبيعية)، والزِّنْجفْر (معدن متفتّت أحمر يدهن به الحديد عادة) والرَّهَج الأصفر (كبريتور الزّرنيخ الأصفر).
في لوحات جاي يلتقي البوب آرت بالسريالية والتقاليد الصينية في زخم من الحبر حمضي الألوان
بفضل تلك الألوان والخبرة الطويلة التي اكتسبتها كخطّاطة، وساعدتها على العناية بالتفاصيل والتوسع البهيج والعضوي للأشكال، أمكنها رسم مشاهد طبيعية زاخرة، وكتب حيوانات اشتباحية، وعناصر بيوغرافية، وموتيفات معاصرة تمتزج فيها مرجعيات تاريخ الفنين الغربي والصيني. حتى أن زخم الألوان الساطعة التي تزين لوحاتها يقربها أحيانا من الفن الساذج كما عرفناه لدى الفرنسي الديواني روسّو، ولكنها تتميز عنه برفعتها، وتناسق مكوناتها.
والطريف أن أعمالها تنتهج نهجا يخالف الثنائيات التي وسمت السرديات الغربية الحديثة، كالخط واللون، التقليد والتجديد، الكتابة وتصوير الفكرة. والمرجعيات التي تجلل أعمالها ليست تعبيرا عن حنين وارتحال إلى الماضي لاستحضار التراث، بل هي نقاط رُسُوٍّ لمشغل رئيس يضع الإمكانات التشكيلية لسردية ثقافية معقدة موضع تساؤل.فعندما ترسم بدقة خطوطا محطمة حسب التصوّر الهندسي الغربي، فإنما تريد تمثل شعاف الجبال.
كذلك عندما تستعمل اللغة التجريدية، فغايتها وضع المشاهد المتخيلة والمشاهد الحقيقية جنبا إلى جنب. حتى إنه يمكن القول إنها تستدعي الأعمال التقليدية لتفكيكها، وابتكار بديل لها يحتوي على عناصر منها، بعيدة أو قريبة، ولكنه ينأى عنها، من خلال إضفاء عناصر جديدة، من واقع العصر، أو ممّا اختزنته ذاكرتها خلال تجوالها عبر المدن والمتاحف الغربية التي زارتها، والمؤسسات التي درست في رحابها.
استطاعت يوان جاي في وقت وجيز أن تفرض حضورها في الساحة التايوانية وتحتل موقعا متقدما جلب لها الاعتراف في الداخل والخارج، حيث أقامت معارض فردية منذ مطلع التسعينات، في متاحف كثيرة عبر العالم. بدءا بمتحف تايبي للفنون الجميلة، ومتحف الفن المعاصر بشانغهاي، وصولا إلى أروقة المجتمع الآسيوي في نيو يورك، ومتحف الفن الحديث بسان فرانسيسكو، ومتحف الفن الوطني الصيني ببيكين، ومتحف الفن الحديث بباريس، وأخيرا متحف بومبيدو للفن الحديث الذي يحتضن بعضا من أعمالها حتى نهاية أبريل القادم.
واكتفى هذا المعرض الذي يحتفي بتجربتها المميزة بعشر لوحات، رأى المشرفون على تنظيمه، وخاصة محافظة المتحف كاترين دفيد، أنها خير ما يمثل مقاربة يوان جاي وأسلوبها الفني، ويعكس دمجها الألوان الخاصة بالصناعات التقليدية كالخزف والحرير ضمن التأمل الجمالي للفن المعاصر.
وكانت تلك اللوحات كافية لخلق انطباع لدى عشاق الفن بأن ما تعرضه الفنانة التايوانية من رسوم على الحرير يمثل مزجا مذهلا لأساليب متعددة، حيث يلتقي البوب آرت بالسريالية والتقاليد الصينية في زخم من الحبر حمضي الألوان، فقد استطاعت يوان أن تمزج بحرفية عالية بين النماذج الشرقية والمرجعيات الأوروبية دون أن تحدث قطيعة. والمفارقة أن جمع تلك الثيمات المتنافرة ساهم بقدر كبير في خلق وحدة خطوطية رائعة، ولعل ذلك ما بوّأها تلك المكانة، وجعلها رائدة من روّاد تجديد الرسم بالحبر الصيني.