جان ميشيل كولون: الفنان اللغز الذي أفنى عمره في الرسم سرا

لوحات جان ميشيل كولون تتميز بكونها ذات غنائية مكتومة، غير تصويرية رغم أنها تستلهم من الواقع مفرداته، ومن المدن التي يزورها ألوانها، أو زرقة سمائها.
الاثنين 2019/03/11
لوحات ذات غنائية مكتومة

تحتضن “دار الفنون” بشاتيون، إحدى الضواحي الباريسية، معرضا فريدا لفنان فرنسي أفنى عمره في الرسم سرا، منغلقا في مرسمه، لا يسمح لأحد بزيارته، ولما توفي، اكتشفت ابنته نحو ثمانمئة عمل فني، بين لوحات زيتية وكولاج من طراز رفيع، فاجأت عشاق الفن ومحترفيه.

يعدّ الفرنسي جان ميشيل كولون  (1920-2014)لغزا في تاريخ الفن المعاصر، هذا الفنان الذي كان يملك قدرات تسمح له بحيازة مكانة عالية في طبقات الفنانين، قضى حياته في الخلق والابتكار، في عالم خاص به وحده، لا يسمح لأحد بزيارة مرسمه، حتى وفاته.

بدأ كولون الرسم منذ نعومة أظفاره، في مسقط رأسه بوردو، وبعد رحلة إلى جبال الآلب قرر أن ينذر حياته للفن التشكيلي، وسنحت له فرصة فريدة للبروز يوم التقى صدفة، وهو لا يزال في بدايته ببابلو بيكاسو، فأراه رسما أعجب به بيكاسو وأراد الاحتفاظ به، ولكن الفتى كولون رفض وفر هاربا.

وقد رأى المؤرخون في هذه الحادثة استعارة لحياة فنان أتيحت له فرص كثيرة كي يحتل موقعا متميزا في الساحة الفنية الفرنسية والعالمية، ولكنه آثر الانزواء، لأسباب عزاها بعضهم إلى موت أخويه الأصغرين: الأول مات رميا برصاص النازيين، والثاني إثر تحطم طائرته المقاتلة زمن الحرب الكونية الثانية، فيما ردّها بعضهم الآخر إلى نشوب حريق أتى على مرسمه عام 1955.

والثابت أن العزوف لم يأت مبكرا، فقد أتيحت له الفرصة منذ الأربعينات، يوم التقى بنيكولا دو ستاييل الذي كان يتتلمذ على يدي فرنان ليجي، فمكنه من الدخول إلى حلقة مدرسة باريس الثانية (وهي حركة فنية ظهرت بعد الحرب)، حيث خالط مجموعة من الفنانين أمثال الروسي أندري لانسكوي، والبرتغالية ماريا هيلينا فييرا دا سيلفا، والمجري أرباد شنييس، قبل أن يشارك في معرض جماعي إلى جانب

جورج براك، وبول كلي، ونيكولا دوستاييل، وفاسيلي كادينسكي، ولم يكن قد أتم عامه العشرين، ثم في معرض فردي برواق “جانْ بوشنر” ما بين عامي 1949 و1950 بوساطة بيكاسو نفسه.

ذلك الرواق الذي يشهد سجله الذهبي على مرور فنانين مرموقين أمثال لوسيان فييار، وتيوفيل دايرو، وفرنسوا أرنال، فضلا عن الأميركي مارك روتكو، ما أكسبه شرعية الحضور في معرض جماعي بنيويورك إلى جانب مارك روتكو، وفرنان ليجي، وبيير سولاج، وجان دوبوفي، وجاكسون بولوك الذين سيكون لهم شأن وأي شأن.

كولون لم يبحث عن اعتراف من أهل الفن وعشاقه، إنما مارس هوايته بامتلاء، دون ضغوط، لا مادية ولا فنية
كولون لم يبحث عن اعتراف من أهل الفن وعشاقه، إنما مارس هوايته بامتلاء، دون ضغوط، لا مادية ولا فنية

تلك السنة المفصلية، كان يمكن أن تكون منطلقا لمسيرة فنية متألقة، ولكن حصل العكس، إذ اختار كولون الانزواء، ولم يكسر عزلته إلاّ مرة واحدة عندما أقام معرضا في بروكسل عام 1971، أي أننا إزاء موهبة حقيقية تهاب الظهور للشمس، فما إن تسلط عليها الأضواء حتى تهرب إلى عزلتها. الثابت أن كولون كان يقيم علاقة حميمة مع الفن التشكيلي، يحبوها عنايته في كنف السرية التامة، وكأنه لا يرسم للآخرين، ولا للمجد والشهرة، بل حبا للفن أولا وأخيرا، ولذلك جعل مرسمه أشبه بعرين للخلق يمنع أن يقربه أحد، حتى أسرته.

وفي عرينه ذاك، أنتج كولون سرّا مدونة تجريدية قوية ومتناسقة، تتميز بكتابة هندسية بالأساس، يرسمها بالسكين، مشتغلا على الألوان الحية، ليخلق مربعات أشبه بفسيفساء غير منتظمة، تتبدى مثل مشبكات حضرية أو حقول ينظر إليها من السماء.

لوحات ذات غنائية مكتومة، غير تصويرية رغم أنها تستلهم من الواقع مفرداته، ومن المدن التي يزورها ألوانها، أو زرقة سمائها، فقد درج على استلهام الألوان من المدن التي كان يزورها داخل فرنسا وخارجها، فهو، وإن كان منزويا كفنان، عاش عيشة طبيعية، وسط أسرته أو بعيدا عنها.

ويندرج المعرض الذي تحتضنه “دار الفنون” بشاتيون، إحدى الضواحي الباريسية، ضمن سلسلة تؤرخ لمدرسة باريس الثانية، وكان قد احتفى تباعا بتجارب ألفريد مانيسيي، وليون زاك، وأوليفيي دوبري، وجان لوموال.

ويضم خمسين عملا فنيا لم يسبق للجمهور ولا لنقاد الفن ومؤرخيه أن رأوها من قبل، وتمسح الفترة الممتدة من الأربعينات إلى التسعينات، حتى تتكون للزائر فكرة عن تطور تجربة هذا الفنان الملغز، ولئن كان الرسم الزيتي يمثل العمود الفقري لأعماله الفنية، وتقنيته المفضلة طيلة عقود، حيث تكشف لوحاته عن أطوار تنقله عبر الألوان، مع التصرف في المواد بطريقة ذكية، فإنه لم يتردد خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة في خوض تجربة الكولاج، بتسليطه على أعمال سابقة في طور أول، ثم في أعمال مستقلة في طور ثان، وفي أعماله الأخيرة، المتميزة ببساطتها، تتجلى متعة الخلق لدى فنان عاش بالرسم وللرسم.

وجملة القول إنه يصادف أن يكتشف أهل الفن لوحة منسية لهذا العلم أو ذاك، أو يكشفون عن لوحة مزيفة نسبت خطأ إلى فنان ما، ولكن لا يذكر المتخصصون أن تاريخ الفن شهد تجربة كاملة، متروكة في مرسم مغلق، لم تُكتشف إلاّ بعد رحيل صاحبها، والمذهل حقا ألاّ يبحث الراحل عن اعتراف من أهل الفن وعشاقه، حسبه أنه مارس هوايته بامتلاء، دون ضغوط، لا مادية ولا فنية.

16