جان ميشيل باسكيا فنان رسم هويته الزنجية فدخل أروقة العالمية

الفنان باسكيا ترك آثارا تعد إسهاما حقيقيا في مدونة الفن المعاصر، وموقفا جريئا من القضايا المجتمعية.
الاثنين 2018/10/01
فن الأندرغراوند بلمسات باسكيا

لا يمكن الحديث عن رواد الفن المعاصر دون ذكر جان ميشيل باسكيا، أول فنان زنجي يحوز شهرة عالمية، فقد كان رغم حياته الوجيزة طلائعيا عرف كيف يجعل من العادي والمعيش والتافه في نظرنا أعمالا فنية، تحتضنها بداية من شهر أكتوبر الجاري مؤسسة لويس فيتون بباريس.

ولد جان ميشيل باسكيا في بروكلين (1960-1988) من أب هايتي، وأم بورتوريكية كانت تصحبه منذ صغره إلى المتاحف والمعارض، لما لمسته فيه من رغبة مبكرة في الرسم والتلوين، إذ كان يُعدّ رسوما لقصص الأطفال وأخرى مستوحاة من أفلام هيتشكوك.

وكان إلى ذلك قارئا نهما يطالع باللغات الثلاث، الفرنسية التي أخذها عن أمه، والإسبانية التي ورثها عن أبيه، والإنكليزية لغة مسقط رأسه والبلد الذي اعتنق جنسيته. وبعد سنتين قضاهما مع أبويه في بورتو ريكو لدواع عائلية، عاد إلى نيويورك عام 1976، فالتحق بمدرسة خاصة بالموهوبين الصغار.

هناك تعرف باسكيا على أل دياز الذي سيخوض معه تجربة الغرافيتي في أنفاق المترو، رفقة صديق آخر هو شانون داوْسون، ويوقعونها معا باسم سامو SAMO المشتقة من العبارة same old shit ما يعني بلغة مهذبة “لا جديد”.

ولم تمض سنتان حتى طرده أبوه لتعاطيه المخدرات، فغادر بيت أهله، ليعيش حياته الخاصة ويكسب قوته من بيع الأقمصة، وبطاقات بريدية كان يتفنن في صنعها، ويرتاد أوكار السهر، والنوادي التي تستقبل الفنانين.

هناك تعرف على أندي وارول، أحد أعمدة الفن الطلائعي، الذي عرّفه عليه المنتج غلين أوبريان وكان قد موّل شريطا أدى فيه باسكيا دوره كما في الحياة بعنوان “قاع المدينة”، اشترى منه وارول إحدى بطاقاته البريدية، وثمّن جهده، ثم تعاون معه لاحقا في إعداد لوحات تجمع بين الرسم والسيريغرافيا، قبل أن يصبحا متلازمين، يقدر أحدهما الآخر، ويجلّ مغامرته، بل إن وارول مهد له الطريق ليساهم في العام نفسه في معرض جماعي بنيويورك مع كيث هارينغ، ووربرت ميبلثورب وأندي وارول طبعا، أطلق عليه “الطريق الجديد”، وينظم أول معرض خاص في رواق أنّينا نوزا، قبل أن يشارك في بينالي متحف ويتني للفن الأميركي، فكان أصغر فنان يحتضنه ذلك المتحف.

باسكيا عاش حياة وجيزة، ومع ذلك أبدع في أن يجعل من العادي والمعيش والتافه أعمالا فنية اتسمت بالطلائعية

ولم يخطئ حدس وارول، سيد البوب آرت، إذ سرعان ما فرض باسكيا حضورَه كرائد من رواد فن الأندرغراوند، قبل أن ينتشر في أميركا وخارجها، ويصبح أول فنان أسود يحوز العالمية، ويُتداول اسمه كعلم من أعلام الفن المعاصر، كما حقّقت أعماله بعد وفاته أرقاما خيالية تضاهي في أثمانها لوحات كبار الفنانين أمثال مونك، وبيكاسو، وبيكون، وجاكوميتي وموديلياني.. بل إن إحدى لوحاته بيعت العام الماضي بـ110.5 مليون دولار في مزاد علني بنيويورك، ما جعله أول فنان مولود بعد الحرب العالمية الثانية تفوق قيمة إحدى لوحاته المئة مليون دولار.

وتنقسم مسيرة باسكيا الفنية إلى مراحل ثلاث بالغة الخصوصية والتميز، فخلال المرحلة الأولى، أي ما بين 1980 و1982، أظهر باسكيا هوسا بموت الإنسان، إذ غالبا ما يرسم على الجدار أو القماشة أطيافا أشبه بالهياكل العظمية، ووجوها شبيهة بالأقنعة، وكان يستلهم لوحاته ممّا يراه في الشارع من أطفال وسيارات وغرافيتي ومظاهر فقر..

وتوجت هذه المرحلة بدعوته إلى معرض جماعي مع فنانين آخرين صاعدين أمثال فرنسيسكو كليمنتي، ودفيد سال وجوليان شنابل الذي خصّص له عام 1996 شريطا وثائقيا طويلا بعنوان “باسكيا” دوّن فيه سيرة صديقه الراحل.

وفي المرحلة الثانية الممتدة من 1982 إلى 1985، أبدى باسكيا اهتماما بهويته الزنجية، من خلال رسم شخصيات سوداء، تاريخية كانت أم معاصرة ممّن يحتلون الواجهة دفاعا عن قضايا السود في أميركا، وتصوير الأحداث المنجرة عن مواقفهم، وكان عمله مؤلّفا أساسا من رسوم زيتية على ألواح ويافطات متنوعة، تتكدّس فيها العناصر بعضها على بعض، من الكتابة إلى الكولاج.

أما المرحلة الثالثة وهي الأخيرة، التي تمسح عامين، من 1986 حتى وفاته، فقد تميزت باستعمال تقنيات وأساليب وعناصر لم يجربها من قبل، تجلى في تضاعيفها أثر إدمانه على الهيروين، ثم ازدادت مأساته بوفاة أندي وارول في شتاء 1987، ما كان له أسوأ الأثر على صحته الجسدية والنفسية، وبات يعتقد ألاّ أحد بعد رحيل صديقه الأوفى يفهمه، ولم يأت صيف العام الموالي حتى التحق به.

ورغم حياته القصيرة، إذ توفي في سن الثامنة والعشرين بسبب جرعة مفرَطة، ترك باسكيا آثارا تعد إسهاما حقيقيا في مدونة الفن المعاصر، وموقفا جريئا من القضايا المجتمعية.

وفي رسوم جان ميشيل باسكيا الطفولية تعبير عن صراعه ضد غياب الصورة السوداء في عالم الفن، إذ كان يريد تجسيد الثقافات والانتفاضات الأفريقية الأميركية في أعماله، فجعل من الشارع مشغلَه، ومن السكان مصدرَ إلهامه، ومن السود الأميركان ذي الأصول الأفريقية كالملاكمَين محمد علي كلاي، وشوغر راي روبنسون، وعازف الساكسفون تشارلي باركر أبطالا تُعصِّب جباههم أكاليل من الشوك. قال عنه أندري وارول “باسكيا كان مرآة تعكس ما كان، وما يكون، وما يحلم أن يكون”.

16