جائزة بلو بيتر لكتاب الطفل تحتفي بحكاية لاجئ سوري

ما تزال أزمة اللاجئين تستأثر بحيز بارز من النقاش والاهتمام العالميين، خاصة على مستوى التغطية والتناول الإعلامي والأدبي والفني في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المملكة المتحدة، فبعد وصول رواية الكاتب الأيرلندي دونال رايان “من بحرٍ هادئ وخفيض” إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر البريطانية في العام الماضي، وهي رواية تتناول سيرة لاجئ سوري انتهى به المطاف في أيرلندا الشمالية بعد أن ابتلعت مياه المتوسط زوجته وابنته الوحيدة؛ أسندت جوائز بلو بيتر إحدى جوائزها لأدب الأطفال للكاتبة البريطانية أونجالي رؤوف عن كتابها “الولد الذي في آخر الصف”، وهو عبارة عن مجموعة قصص تدور حول طفلٍ سوري لاجئ في المملكة المتحدة يلتحق بإحدى المدارس الابتدائية في العاصمة لندن.
تُوظِّف الكاتبة المبتدئة أونجالي رؤوف خبرتها الميدانية التي اكتسبتها من خلال عملها التطوعي في مساعدة اللاجئين في مخيّم كاليه على الحدود الفرنسية البريطانية في تصوير المعاناة التي يكابدها هؤلاء اللاجئين، ولاسيّما الأطفال وذويهم، في إعادة رسم مسارات حياتهم في البلدان الجديدة التي قادتهم إليها خطاهم، بعد تجارب مضنية من الحروب والدمار والتهجير والرحلات المحفوفة بأصناف المخاطر والعذابات.
وفي كتابها الأخير “الولد الذي في آخر الصف”، الذي احتفت به جائزة بلو بيتر لكتاب الطفل، تقدم رؤوف حكاية طفلٍ سوري لاجئ يصل إلى إحدى المدارس الابتدائية البريطانية، تبرعُ أونجالي في مناقشة واحدةٍ من أبرز الإشكاليات التي تقترن برحلة اللجوء ومحطاتها العديدة التي لا تكاد تصل محطة حتى تنطلق إلى أخرى في دراما بشرية عنوانها الأبرز هو القلق والبحث عن السكينة.
المقعد الفارغ
يطرح هذا الكتاب الذي أراه مناسبا للكبار مثلما للصغار واحدة من القضايا العالمية البارزة في عصرنا المضطرب وهي أزمة اللاجئين، وذلك من خلال تساؤلات أطفالٍ لم يتجاوزوا العقد الأول من أعمارهم، فالأسئلة وسيلة الأطفال الأهمّ لفهم العالم من حولهم. وعلى سبيل المثال، تتناول أونجالي مواقف الناس إزاء اللاجئين من خلال الأطفال الذين يتبادلون ويستطلعون ما يسمعونه من ذويهم البالغين حول هذا الأمر وصولا إلى تكوين آرائهم الخاصة.
“لقد اعتدنا وجود مقعد شاغر في آخر الصف، إلاَّ أن صبيّا وصل مؤخرا واسمه أحمد، يجلس الآن في ذلك المقعد. عُمرُ أحمد تسع سنوات، أي بعُمري أنا، غيرَ أنه يبدو غريبا جدا، فهو لا يتكلّم ولا يبتسم ولا يحبُّ الحلويات، ولا حتى شراب الليمون الفوّار الذي أُحبّ! لكنني أدركتُ في وقت لاحق حقيقة أن أحمد لم يكن غريباً أبداً، فهو لاجئ هرب من الحرب، أعني حرباً حقيقية يتعرّض الناس فيها للقنابل والنيران والرصاص. وكلما تعرّفت أكثر إلى أحمد، زادت رغبتي في مساعدته، وهو ما يشاركني إياه أصدقائي المقرّبون، جوسي ومايكل وتوم، وها نحنُ نضعُ خطة للمساعدة…”.
هكذا تبدأ الحكاية من مقعد دراسيّ فارغ في الجزء الخلفي من الفصل الدراسي في المدرسة التي تختارها الكاتبة مسرحا لبدء رحلتها السردية الشيِّقة التي جاءت في 285 صفحة تضمّ 26 فصلا، يحمل كل منها عنواناً لحكاية فرعية تنتظم جميعها في تسلسلٍ سرديّ يعرِض لتطوّر علاقة الطفل السوري اللاجئ (أحمد) بثلاثة من الأطفال الآخرين في صفّه المدرسي، ولتناقش على ألسنة الأطفال وبأسلوبٍ بالغ البساطة والعُمق بعضا من الأسئلة الشائكة التي وجد العالم نفسه أمامها بالتزامن مع موجات اللجوء المتصاعدة في السنوات الأخيرة، وانقسام المراكز السياسة والفكرية الغربية على وجه التحديد ما بين مرحّبٍ باللاجئين ورافض لاستقبالهم.
الطفولة المذهلة
على لسان أحد الأطفال وبأسلوبٍ رشيقٍ لا يخلو من الطرافة والفكاهة، ترصد أونجالي سيرة الطفل أحمد بحقيبة الظهر الممزقة، الذي لا يتحدث الإنكليزية، والذي وصل إلى لندن على متن قارب استقلّته عائلته، هربا من بلادهم التي مزّقتها الحرب، بحثاً عن مكان آمن للعيش فيه. كان البحر قد ابتلع أخت أحمد الصغيرة وكلبها، فيما غدا والداه في عداد المفقودين، وهو يعيش مع أسرة تبنّته إلى أن يلتئم شمل أسرته. في اليوم الأول من المدرسة، يتوقف الأطفال عن النظر إلى الوافد الجديد المنزوي والصامت حيث تبادر فتاة توكِل لها أونجالي مهمة الراوي بتقديم ابتسامة وعلبة صغيرة من شراب الليمون له، ومن ثمّ تبدأ بوضع خطة يحدوها الفضول لمعرفة حكاية هذا القادم الجديد والأخذ بيده نحو عالم الإنسانية الرحب.
إلاّ أن أحمد، أسوةً بكلّ غريب، لا يقوى بعد على الانخراط العاجل في المشهد الجديد، ولن تكون الأمور سهلة بالنسبة إليه، بغضّ النظر عن النوايا الحسنة لمجموعة الأطفال التي أخذت على عاتقها حلّ لغز هذا الفتى، وإرغامه على التخلي عن خجله وانعزاله والانخراط في عالم الطفولة والمرح. ومن خلال حساسيتهم وفضولهم وإبداعهم وشجاعتهم وجمالهم، الذي تبرعُ أونجالي في تصويره، ينجح هؤلاء الأطفال في إدخال تغيير هائل في حياة أحمد وحياتهم أيضا، ليس هذا فحسب، بل وفي تغييرٍ يطال المدرسة والمجتمع والعالم الأوسع إذ تنجحُ أونجالي من خلالها أبطالها الصغار في تعرية المفاهيم المغلوطة التي تنصب الحواجز بين البشر، وتعوق التواصل البنّاء داخل المجتمع الإنساني.
ثمّةً تفكيك طفولي مذهل للقوالب النمطية التي يتداولها الكبار ودحضٌ ذكي للمغالطات التي تدفع بالبشر إلى الحكم على الآخرين قبل معرفتهم بحق. حكاية لطيفة وملهمة ستساعد الأطفال على التفكير الإيجابي والرغبة في تقديم العون والإيمان بالعدالة.
لقد استطاعت أونجالي من خلال بدايتها الموفقّة في عالم الكتابة وعبرَ منظورٍ طفولي آسر تقديم عمل ستكون له بصمته الإنسانية التي لا تُنسى، فقد جعلت من هذا “المقعد الفارغ” رمزا لحيِّز الأخوة الإنسانية المتاح أمام اللاجئين الفارّين من الأهوال والفظائع والباحثين عن حياة جديدة. وتقول أونجالي التي خصصت جزءا من ريع كتابها لمساعدة اللاجئين في العالم إنَّ هدف كتابها الأبرز هو لفت الانتباه إلى محنة اللاجئين، ولاسيّما الأطفال الذين تفرّقت السبل بينهم وبين ذويهم.