ثورة نازك الملائكة على الشعر العربي ثورة عالمية

لم يكن التغيير الذي شهده الشعر العربي أواسط القرن العشرين تغييرا سلسا وسهلا في خروجه من بنية البيت المستهلكة ومن التكرار والانغلاق إلى فضاء أوسع هو الشعر الحر، بل كان وليد ثورة تعاضد فيها الإنتاج الشعري مع الكتابة النقدية التنظيرية التي واكبته، وهنا لا يغيب اسم الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي جمعت بين رقة الشعر وعلمية النقد لتؤسس لشعر مغاير في الشكل والمضمون.
تختلف دلالات الثورة الشعرية تبعا لطبيعة المنحى الإبداعي الذي يرتبط به التثوير؛ فقد تعني الثورة الشعرية التجديد في جماليات الشكل فيكون للشعر وجه جديد. وقد تعني الثورة الشعرية الانقلاب في المنافحة عن حياض مضمون بعينه أو المناكفة في سبيل اتجاه معين من الاتجاهات. لكن ما بالنا من الثورة الشعرية التي تتعمد التغيير شكلا والانقلاب مضمونا باتجاه تغيير قواعد الشعر وصناعة قواعد جديدة.
بهذا الحديث عن الثورة الشعرية، افتتحت الباحثة العراقية الأكاديمية نادية هناوي كتابها الجديد “نازك الملائكة في شظايا الحداثة ورمادها”، والذي حمل الرقم 31 في سلسلة كتبها التي تدور في فلك الأدب والنقد.
ثورة نازك الملائكة
في هذا الكتاب، الصادر حديثاً عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع ببغداد، تؤكد هناوي أن نازك الملائكة ثارت على الشعر العربي ثورة لا سابق لها، ثورة اجتمع فيها الشعر بنزوعه الوجداني الشفيف وتحليقه الرومانسي العذب، والنقد بنزوعه العلمي وموضوعيته الحاسمة وسيف حكمه اللاذع. وتذهب الأكاديمية نادية هناوي في كتابها الجديد إلى القول إن ثورة نازك الملائكة على الشعر هي ثورة عالمية تستمد أوارها من “عالمية الشعر العربي بكل ما فيه من تاريخ عريق وحاضر ملتبس وقادم غامض”. وهي التي أحبت الشعر الحر حتى كأنه وحده الذي عليه تقوم حياتها، وأحبت النقد فكأنه وحده الذي يعرف شعرها أو كصمّام أمان فيه مسرى هذا الشعر وفيه منتهاه.
وعن أسباب تميز نازك الملائكة عن زملائها رواد حركة الشعر الحر، تقول هناوي “هي شاعرة القرن العشرين بلا منازع حتى أن أيّ حديث عن التثوير الشعري يرد فيه ضمير التأنيث المنفصل (هي) أو المتصل (ها) إنما يذهب فيه الظن مباشرة باتجاه نازك الملائكة بوصفها هي الثائرة الرائدة، وكيف لا، وهي التي وجهت شعرها – على ما فيه من وجدانية ورقة – وجهة تثويرية، فأبانت عن فكر انقلابي في نقدها، عَرَفَه المناصرون والمعارضون من الذين جايلوها أو الذين أتوا بعدها”.
وتضيف “بسبب هذا وذاك صارت لها رمزيتها الخاصة في عالم الشعر العربي ولها منزلتها المعتبرة في عالم النقد العربي. تشهد على ذلك العقود السبعة المنصرمة التي بقيت فيها الحداثة الشعرية مرهونة بنازك الملائكة. وما من شك في أن هذا الارتهان سيستمر على الوتيرة التحديثية نفسها في العقود القادمة”.
واعتمادا على هذه النظرة التأنيثية جاءت فصول الكتاب الأربعة موزعة على النحو الآتي: فكرها في الفصل الأول، ونقدها في الفصل الثاني، وشاعريتها في الفصل الثالث، ونسويتها في الفصل الرابع. وتأتي مباحث الفصول على السياق نفسه “غناؤها/ريادتها/عالميتها/رمزيتها/نقدها/إرثها /ناقدوها/نسويتها”.
الإبداع والحياة
ترى هناوي أن نازك الملائكة ذادت عن حياض ثورتها نفسيا وفكريا وثقافيا ونقديا حتى صنعت للشعر العربي زمنا جديدا فكانت الشاعرة المفكِّرة والناقدة المنظِّرة. وما التعاقب والانحدار والانتظام والتلاطم سوى تبعة من تبعات التحديث الذي في خضمه جاء الشعر الحر عام 1947 فأرّخ لنازك الملائكة ريادتها. وأرّخت هي للشعر الحر حداثته، وغرست مقوماته وجسدتها في نقدها وفي تضاعيف قصائدها.
وتشير المؤلفة إلى الكثير من الدراسات والمقالات التي كانت نازك الملائكة قد نشرتها في مجلات الآداب والأديب والهلال والأقلام فضلا عن كتبها، وما كُتب عنها، وإليها عادت في كتابها الجديد سعيا منها كما تقول إلى “البحث ما بين شظايا شررها ورماد جذوتها، استكشافا للإبهامات وتفكيكا لالتباسات وتعقيدات ما قيل أو كُتب في فكر نازك الملائكة”.
وخلافا لكثيرين يرون أن نازك الملائكة تراجعت عن مشروعها الشعري، ترى هناوي أن موقف نازك الملائكة من الشعر الحر ظل واحدا فلم تتوان أو تتراجع عن تأدية مهمتها التحديثية بل هي على “طول مسيرتها ما انفصلت حياتها عن إبداعها، بل كان إبداعها هو حياتها، واستمرت على ذلك الديدن تعيش ثورتها الإبداعية في كل تجلياتها حتى تركت للأجيال ما يؤلّبها على النهوض والتحديث”.
يُذكر أن نادية هناوي أكاديمية وناقدة عراقية تعمل في جامعة المستنصرية، وتعرف بمشاركاتها الواسعة في المؤتمرات والملتقيات ذات العلاقة بالأدب والنقد، وقد قدمت خلال مسيرتها الأكاديمية أكثر من 100 بحث، إلى جانب مساهمتها في إثراء المكتبة العربية بـ31 مؤلفا.