ثقافة المجازفة في تونس تنتشر مع الجائحة

الأزمة الصحية في تونس أظهرت أن الأشخاص المنتمين للمهن الحرة أو للاقتصاد غير النظامي، يشتركون أكثر من غيرهم في ثقافة تجمع بين عدم التعويل على الدولة والتشكيك في مصداقية قراراتها.
الأربعاء 2021/06/09
معادلة خاصة بالمواطن

كشفت جائحة كورونا الكثير عن تطور في واقع المجتمع التونسي وأولويات التونسيين في أوج الأزمات الراهنة بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية.

يبدو المجتمع متشظيا بشكل أكبر أمام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تهز أركانه. تقول التقديرات الصادرة عن خبراء محليين وأجانب إن الطبقة الوسطى في تونس انحسرت في حدود 50 في المئة خلال العشرية الأخيرة. واحتلت مساحات متزايدة من مواقعها السابقة الشرائح الفقيرة التي أصبحت تشكل من 20 إلى 30 في المئة من التونسيين وبقي الموسرون في حدود 20 في المئة إن لم يكن أقل قليلا.

ولكن جائحة كورونا بالذات أظهرت تقسيمات إضافية في المجتمع التونسي وخاصة منها ما يضع الموظفين الحكوميين في خانة مختلفة عن بقية المواطنين.

إحدى العبارات المتداولة في الثقافة الشعبية اكتسبت معنى جديدا يشير إلى تغير في موقف جانب واسع من المجتمع تجاه الموظفين العموميين بعد الجائحة. يصف التونسيون التقليديون بلهجتهم العامية رواتب الوظيفة العمومية “بالمسمار في حيط” (ومعناها المسمار المثبت في الحائط). والمقصود هنا أن رواتب الموظفين الحكوميين ثابتة مثل المسمار المدقوق في الجدار أو الحائط، وذلك بعكس سائر المواطنين الآخرين الذين يفقدون مصادر دخلهم إذا ما توقفوا عن العمل ولو كان ذلك نتيجة طوارئ صحية مثل تلك التي تفرضها جائحة كورونا.

تحيل الاستعارة اللغوية في تشبيهها إلى الراتب الحكومي بالمسمار المثبت في الحائط إلى تصور راسخ في تقاليد تونسية محافظة تثمّن الاستقرار الذي توفره (أو كانت توفره إلى حد ما على الأقل لحد الآن) الوظائف الحكومية.

هذا التصنيف أصبح يستعمل للإيحاء بأن الموظفين ينتمون إلى طبقة من المحظوظين إبان الجائحة، طبقة تُغبط على امتيازاتها ولا يقاس عليها. والأهم من ذلك هي أنها طبقة لا مصداقية لها حسب البعض في محاولة فرض إجراءات السلامة الصحية على الآخرين. هؤلاء ينظر إليهم من فقد شغله أو مصدر قوته بأنهم يتمتعون بما يشبه الإجازة مدفوعة الأجر في حال فرض الحكومة قرار الغلق الكامل لاجتناب انتشار العدوى.

يعكس هذا الاستعمال اللغوي جملة من المفاهيم المبطّنة. أولها إحساس أصحاب الدخل غير القار، وهؤلاء في معظمهم من الناشطين في نطاق مجالات الاقتصاد غير النظامي، بأنهم خارج أي مظلة حكومية للتأمين الاجتماعي أو للمساعدة الظرفية التي تقيهم انعكاسات كورونا.

صحيح أن الحكومة قدمت مساعدات للفئات المتضررة من الجائحة ولكن المساعدات كانت غير كافية بالمقارنة مع الاحتياجات. كما أن طريقة توزيعها اكتنفها الكثير من الاضطراب لا يوحي بوجود منهجية علمية ثابتة لتحديد المستفيدين وطمأنة أصحاب الموارد الهشّة. رغم أن إعداد مثل هذه المنهجية قد بدأ منذ سنوات عديدة.

ومن الأكيد أن هذه الدروس غير خافية عن الحكومة وهي تتفاوض مع صندوق النقد الدولي حول إصلاح نظام التعويض عن الأسعار على أساس توجيه مخصصاته نحو المحتاجين وليس لعامة الناس.

ولكن تقسيم المجتمع إلى موظفين حكوميين وغير الموظفين هو تقسيم غير دقيق. ففئة غير الموظفين تشمل التجار بأنواعهم إضافة إلى المهن التي تندرج ضمن الاقتصاد غير النظامي. وهؤلاء ليسوا كلهم من أصحاب الوضع الهش ولا يفقدون كلهم مصادر دخلهم إذا ما فرضت السلطات غلقا أو تضييقات على أوقات العمل. بل إن هناك أقلية من ممارسي النشاط الاقتصادي غير النظامي استفادت من الجائحة.

كما أن الكثير من صغار الموظفين الحكوميين في المقابل يمارسون أنشطة في القطاع غير النظامي لتكملة دخلهم المتواضع، وهم بالتالي من المتضررين ولو بطريقة غير مباشرة من أي إجراءات للغلق.

ولكن الجائحة وحّدت صفوف كل الذين لا يتمتعون بعلاوات حكومية بمن فيهم أصحاب المهن الحرة والأنشطة غير النظامية الذين أظهروا عند آخر محاولة للسلطات فرض الحجر التام قدرة وتصميما على الاحتجاج والرفض إلى حد الدعوة إلى العصيان المدني.

Thumbnail

ومن الملفت أن تحرك بعض القطاعات مثل المتاجر والمطاعم والمقاهي بمالكيها وعمالها يجد دعما من النقابات العمالية وكذلك من اتحاد الأعراف الذي يضم رجال الأعمال على حد السواء.

وقد أظهرت الأزمة الصحية أن الأشخاص المنتمين للمهن الحرة أو للاقتصاد غير النظامي يشتركون أكثر من غيرهم في ثقافة تجمع بين عدم التعويل على الدولة والتشكيك في مصداقية قراراتها.

الاقتصاد غير النظامي لم يعد ظاهرة هامشية، إذ أن الأرقام الحكومية تؤكد أن الأنشطة غير النظامية تقارب نصف الأنشطة الاقتصادية في البلاد. وأصبحت المبادلات غير النظامية تمرّ عبر الموانئ كما الطرقات البرية العابرة للحدود.

ويتحدث الخبير التونسي حمزة المؤدّب عن توغل أساليب عمل الاقتصاد غير النظامي في دواليب الاقتصاد النظامي ذاته، الشيء الذي يفسّر توسع الصادرات المتأتية من الصين وتركيا.

ومن غير المنطقي أن يحدث هذا التمدّد لعقلية الاقتصاد غير النظامي دون أن يرافقه اكتساح من ثقافة الربح الفردي وانحسار للانضباط القانوني ولاحترام السلطة. بعكس ثقافة “المسمار في حيط”، فهذه الثقافة مدفوعة بروح المجازفة والاستعداد لتحدي القيود الترتيبية والبيروقراطية. وللمراقب أن يلاحظ قدرة لدى هذه الثقافة على التحول تدريجيا إلى نمط سلوكي سائد يتجاوز كل الفوارق في المجتمع.

ومن مظاهر استشراء عقلية المجازفة خلال الأزمة الصحية الراهنة قبول شق واسع من التونسيين لمبدأ التطبيع مع كورونا وجحافل موتاها.

وقد تعايش الكثيرون مع تنبيه وزير الصحة باحتمال وفاة أربعة آلاف شخص من جراء كورونا هذا الصيف ليس باعتباره خطرا يجب اجتنابه بل تعاملوا معه كمجرد توقع إحصائي تقبلوه دون لغط كبير.

نفس ردة الفعل الخافتة رافقت إعلان وزير الصحة عن بدء الموجة الرابعة للجائحة في منتصف يونيو، وإن كان ذلك الإعلان يتناقض وسعي الحكومة المعلن إلى إنعاش القطاع السياحي.

أضحى موقف الكثيرين خلال المرحلة الحالية تجاه الحكومة يتلخص في: دعها تعمل ما تشاء ولنعمل نحن ما نشاء.

انطلاقا من ذلك تحكم في تصرف الناس معادلة تتضمن الاقتناع بعجز الدولة عن فعل الكثير (وهو انطباع ترسخه السلطة فعلا بترددها في فرض انضباط صحي بقوة القانون) والقبول بالمجازفة كنمط جديد للعمل والحياة. فقط هذه المعادلة يمكن أن تفسّر عدم اكتراث أعداد كبيرة من التونسيين بإجراءات التباعد والحماية الجسدية في حياتهم اليومية، بالرغم من بلوغ عدد الوفيات من كورونا حوالي 13 ألف شخص في تونس ووصول الوضع الصحي إلى مستوى كارثي في العديد من المحافظات.

ليس للدولة أن تقبل بهذه العقلية، فمسؤوليتها تدعوها إلى حماية المواطنين حتى وإن استهتروا بسلامتهم الذاتية. لا بد لها من استيراد اللقاحات اللازمة وترميم المؤسسات الصحية في القريب العاجل وضبط سلوكيات الشارع بقدر المستطاع.

وحتى دون اعتبار ضغوط كورونا، فإن تغليب عقلية المجازفة على السلامة والتشكيك في مصداقية القرارات الحكومية سوف يفرضان نفسهما بإلحاح كمشكلة حقيقية عندما يحين موعد تطبيق الإجراءات الاقتصادية المؤلمة ومن بينها ما سوف يطيح بقدسية “المسمار في حيط”.

8