ثقافة اللاثقافة
بحكم عملي الطويل في وزارة الثقافة (والسياحة الآن) أستطيع القول بوضوح إنّ ما تفتقده وزارة الثقافة هو الثقافة حصريا، وهذا ليس اتهاما لوزارة تتشكل كل أربع سنوات بعمليـات قيصرية وترقيعية وطائفية فجّة، لكنه واقـع حال نؤشره بلا عناء ونقوله بشكل مستريح في ضوء معطيات متعددة، فعلى سبيل المثال لو طالعنا الكتب الإدارية اليومية التي تصدر من دوائر الوزارة كافة – وهي بالعشرات – لن نجد كتابا منها يختص بالشأن الثقافي إلا ما ندر وهذه الندرة محكومة بظرفية ومناسَبة تأتي وتمضي من دون أن تتـرك أثرا في المجتمع الثقافي وكأنما الأمر تحصيل حاصل لهذه المناسبة أو تلك. ليـس لأن العامـل الإداري هـو الأنشط والأكثر حضورا بين العوامل الأخرى، لكن لأن الفعل الثقافي معطّل والدوائر المرتبطة بالوزارة منشغلة بعجائزها المسلكيين الذين ينتظرون رواتب آخر الشهر ونصف مدرائها العامين الذين جاءت بهم المحاصصة الطائفية غير فاعلين وليسوا أكفاء، أما وكلاؤها الثلاثة فحدّث ولا حرج!
ولو طالعنا الكادر الوظيفي لهالنا الرقم المخيف الذي يُقدّر بعشرة آلاف موظف وموظفة تحسبهم يديرون هذه الوزارة بثقل مميز، لكن الأمر غير هذا بالتأكيد، فالفضائيون (وهو مصطلح جديد يعني وهميين غير موجودين) يشغلون نسبة عالية والهوائيون (وهو مصطلح جديد يعني ما بعد الوهميين ههههه) يشغلون أيضا نسبة لا بأس بها، والعجزة والمسلكيون والقدامى الذين هم على حافّات التقاعد هم النسبة الأكبر من هذه الوزارة المترهلة بكوادرها التعبانة التي تأخذ أكثر مما تعطي وتستهلك أكثر مما تنتج، ولو أردنا الاستثناءات لن نجد دليلا على ذلك إلا بشق الأنفس، لا سيما والوزير الجديد أغلق الكثير من منافذ الوزارة الثقافية كالمراكز الثقافية والمجلات والقناة الفضائية اليتيمة التابعة للوزارة، وما نلمسه من نشاطات تقع كلها في باب الاجتهاد الفردي من مدراء عامين لهم اهتمام ثقافي وفني ويحاولون الخروج من شرنقة الوزارة التي أفلست ميزانيتها قبل كل الوزارات.
الأعداد الهائلة التي تشغل دوائر الوزارة من دون فعل ثقافي أو موجِّهات ثقافية فعلية أو نشاطات تشغل السنة بأكملها بفعاليات ونشاطات لتحديد أسس معرفية وأدبية وثقافية عامة بهوية وطنية وإنسانية ممنهجة ومبرمجة، وهذا العدد المبالغ فيه كفيل بأن يجعل من دوائر الوزارة كتلة حركية مثابرة لو تم “تشغيله” فعليا في برامج واضحة وإعدادات مضمونة للكفاءات والاستحقاقات بدلا مما يحصل الآن في جو عاطل عن العمل وتضخم بشري لا يتوقف وتسويفات ثقافية لا يمكن أن تكون مقنعة.
لا توجد مبادرات خلاقة من شأنها أن تضفي على الجو الثقافي والأدبي نكهة تميز الوزارة كونها وزارة إدارية، عن كونها راعية ومنتجة ومبتكرة لحلقات ثقافية على مدار العام، من دون أن تكون المناسبات وحدها من تذكّر الوزارة بفعالية معينة أو نشاط هنا وهناك. وحتى جائزة الإبداع بحلّتها الجديدة ليست ذات أهمية كبيرة سوى أنها مناسبة انتهت بخيبة كبيرة وانتهى مفعولها الوقتي، وهي الجائزة التي شابها ارتباك كبير في تصنيف الحقول التي تشارك فيها، ولا أعرف حتى اليوم أن هناك مسابقة وجائزة تجعل فيها القصة القصيرة والرواية في حقل واحد وتنافُس واحد!
وزارة الثقافة هي “سياحة” للآلاف من الموظفين العاطلين والمعطلين عن العمل. فتّش عمّن ينتشل هذا الخراب في الوزارة. تجده بلا عناء أيضا. لكن من يفتش؟ بالأحرى من يسمح بذلك؟
كاتب من العراق