ثقافة العيد وجرعة اليأس
الحديث عن العيد يعني الحديث عن المتغيّرات السياسية والاجتماعية وحتى الدينية مثلما هو وقت لتبادل الفرح أو تذكّره على الأقل.
لكنه الآن صار حديثا يصاحب عملية التذمّر واليأس وإجراء المقابلة والمقارنة بين أزمانٍ مختلفةٍ من البلاد. وهو الأمر الذي يقتصر على الدول التي تشهد حروباً مثل العراق بل حتى البلدان العربية والآسيوية الفقيرة بالأخص، كونها شعوباً لا ترى في العيد منصّةً لإطلاق الفرح، بل ربما تعدّه مناسبةً لزيادة النوم في أبسط الحالات، مما انعكس في أحد أوجهه على الجانب الديني الذي أراد استغلال هذه المناسبة للتوجّه السياسي أو التوجّه العقائدي، وتحوّله من عيد إسلامي إلى عيدٍ طائفيٍّ بامتيازٍ، بعد أن اختلف في تثبيت رؤيته الفقهاء والمراجع الدينية للمذاهب جميعها وتحديد أيام العيد أو أيام بدء الأشهر القمرية للبلدان الإسلامية، مما ولد شرخاً كبيراً في العلاقات الاجتماعية، وزاد من مناطق التفارق والتباعد والفراق والتفرقة، بل الوصول إلى حالة التعصّب من خلال الدفاع عن وجهات النظر التي تبديها مراجع المذاهب، كونها محدّدة بمعرفةٍ قدسيةٍ أخذتها من معرفتها بأصول الدين وإيمانها بما قاله الفقهاء الأولون، ومن ثم ما قاله الصحابة وغيرهم ممن أصبحوا مدارس أو حتى مذاهب بأسمائهم.
إن هذا الأمر انعكس أيضا على الجانب الثقافي، كون المثقّف واحداً من الناس الذي ينتمون لهذه الطائفة أو تلك، شاء أو أبى بل يجد نفسه في الكثير من الأحيان مدافعاً عن وجهة النظر التي يبديها الآخر بطريقة التهجّم أو الانتقاص.
إن العيد رغم أن الجميع يعرّفه ويذكر تعريفه على أنه “عَيَّدَ: شَهِدَ العِيدَ واحتفلَ به” كما جاء في معجم المعاني الجامع وهو أيضا “العِيدُ: ما يعود من همٍّ أو مرض ، أَو شُوق أو نحوه”.. ولكنه الآن ربما فقد لونه أو فرحته في العراق مثلا، واستعيض عنه بما منحتنه الشبكة العنكبوتية وتحديداً الفيسبوك من عمليات التواصل بالتهاني بين الأصدقاء وهي تهانٍ لا تخلو في أغلبها من غصّةٍ، بل البعض امتنع عن إطلاق كلمات الفرح بهذه المناسبة، لأن هناك عوائل شهداء نازحة وأيتاما وأرامل، لو تم جمع الأعداد لجميعهم لوصل إلى 10 ملايين إنسان يعيشون في حالة تراجعٍ معيشيٍّ وإنسانيّ وهو ما ينعكس بكلّ تأكيد على الفسحة الثقافية التي يريدها المثقّف أن تكون وسيلةً للتواصل مع الآخر بروحٍ متفائلةٍ، ولكن هذه الملايين العشرة لها اتصال القرابة وصلات الرحم مع باقي العراقيين، بما هو معادل كلّ ثلاثة عوائل بينهم شهيد أو يتيم أو أرملة أو نازح.
إن وقوع المثقّف من حيث لا يدري بصناعة اليأس وعدم الاهتمام بالعيد وما يحمله من إرثٍ اجتماعيٍّ وأعرافٍ وتقاليد إسلامية، مبنيةً على العمق التاريخي. وهذه الحال تساهم ربما بميلاد جيلٍ أكثر يأساً وقتامةً وأقل التصاقاً بأهمية الحياة، وبالتالي التأثير على منطق الثقافة ذاتها التي تُسبّب تراجعاً بالوعي المرتبط بأهمية البناء وصناعة الحياة، وبالتالي الخروج بمحصّلةٍ اجتماعيةٍ رخوةٍ غير قادرةٍ على المساهمة الفعالة في صناعة الفرح أمام شدّة الحروب التي يخوضها هذا الشعب أو ذاك، في مواجهة الذات مرّة أو مواجهة السلطة أو العدوان الخارجي أو الحصارات أو ما حصل بعد الاحتلال وما تلاها من مواجهة غول الإرهاب.
إن ما فضحته الكلمات التي تنشر على صفحات الفيسبوك للمثقّفين في عموم الوطن العربي تعطي دليلاً على حالة تراجع ثقافة الفرح وزيادة في جرعة اليأس لأنها وجدت نفسها بين نارين، إحداهما أشدّ من الثانية احتراقاً.. أما القبول بالسلطة وما تحملها من سطوةٍ وقوّةٍ تصل إلى حد الاتهام بالدكتاتورية والتفرّد والإعدامات والسجون والفقر وأيضا ارتكاب حماقة الحروب على الحدود.. أو المضي في ما سميّ بالربيع العربي وما كانت نتائجه للشعوب التي اكتوت به حتى صار الحكام أنفسهم يهدّدون شعوبهم بأن الذي سيحصل لكم هو ما يحصل للشعوب التي انقلبت على حكّامها، وصار العيش إمّا قتلاً أو نزوحاً أو القبول بالإرهاب الذي يتغلغل مستغّلاً الدين وحاجة الناس إلى التخلّص من الحياة.
إن ثقافة الأعياد في السابق لم تعد متوارثة في الجيل الحالي، وحتى من هم من الأجيال السابقة وهم على قيد الحياة اندمجوا مع حالة اليأس والخذلان، وثقافة عدم وجود الفرح، وما أهمية العيد ونفعه وفائدته وسط كلّ الخراب الذي يحيط الشعوب.. حتى أن العيد فقد طعمه الديني وربما صار في التفكير ما أُخذ من المعاجم في تعريفه على أنه “العيد في اللغة يطلق على ما اعتادك من همٍّ أو غيره لا يخص اجتماع الناس في الخير من فرح أو سرور بل لكل ما اعتادك” وفي هذا صار الجميع تحت هذه اليافطة يجتمعون لذكر المعتاد من الألم واليأس ولم يعد العيد ثقافة الاحتفال والمشاركة ونسيان الحزن.
وإن العيد في الثقافة الجديدة لم يعد كما قال ابن الاعرابي ّ “لأنه يعود كلّ سنة بفرح مجدّد” وليس بمفهوم ما قيل “العيد: الموسم، وكلّ يوم فيه جمع أو تذكار لذي فضل، وقيل: حادثة مهمّة” بل إن الحادثة التي تناسب العيد في الزمن الراهن، هي تذكر الألم وزيادة اليأس ومحاولة إدراك مرارة الواقع، من خلال نزف الحزن ذاته.. وكـأن العيد أصبح موسماً لتذكار المصائب التي تحلّ على الناس.. حتى أن الكثير من المثقفين كتبوا إن لا عيد لهم وهناك يتامى وحرب على الإرهاب نستنزف فيها العشرات يوميا من شبابنا.
كاتب من العراق