ثغرات مالية تكشف السيطرة الوهمية على المساجد في مصر

ضيقت الحكومة الخناق على السلفيين داخل المساجد لكنها لم تستطع بعد أن تمنعهم بشكل نهائي من استغلال صناديق التبرعات الوهمية التي يقنعون البسطاء بأنها صناديق لإصلاح المساجد ولتقديم مساعدات لمحتاجين، في حين أنها أحد حلولهم للبقاء.
القاهرة - أعادت وزارة الأوقاف المصرية التحذير من استمرار وجود صناديق للتبرعات في المساجد، مهما كانت الأسباب والدوافع، بعد مرور ثلاث سنوات على إصدار القرار ذاته، في مؤشر يعكس عدم السيطرة التامة على المساجد، واستمرار الوجود السلفي بها، ما دفع الوزارة إلى معاودة التشدد مع عملية تجفيف المنابع المالية التي تستفيد منها تيارات إسلامية اعتادت استثمار أموال التبرعات شعبيا.
وأكدت وزارة الأوقاف في تعميم جديد، الأحد، على منع الدعوة لجمع تبرعات تحت أيّ مسمى على المنبر واستخدامه لأيّ غرض أو تنبيه أو خلافه بالخروج على موضوع خطبة الجمعة المحدد، ومن يخالف ذلك من الأئمة سيُمنع من صعود المنبر في المساجد مع المساءلة القانونية أو التأديبية، حسب الأحوال.
وتمثل صناديق التبرعات في المساجد المصرية لجماعات دينية أحد أهم مصادر التمويل بعد سلسلة القرارات التي اتخذتها الحكومة من قبل وتسبّبت في ضرب قواعدهم المالية داخل المساجد، حيث جرى غلق ما يسمى بـ”الجمعيات الشرعية” وإحكام السيطرة على ما يصلها من تبرعات داخلية وخارجية، والقضاء على مظاهر التبرعات العينية التي ادّعي إسلاميون أنها تذهب إلى الفقراء.
وبلغ التحايل على إجراءات الأوقاف أن بعض المسؤولين عن إدارة المساجد يقومون بوضع صناديق التبرعات في أماكن مجاورة لمبنى المسجد لمنع مساءلتهم أو اتهامهم بمخالفة قرار وزارة الأوقاف، وبدت تحذيرات جهات التفتيش والرقابة هي والعدم سواء أمام استمرار جمع أموال بطرق ملتوية.
ورصدت “العرب” وجود ثلاثة صناديق للتبرع في محيط أحد المساجد بمنطقة عين شمس الشعبية في القاهرة، الأول مكتوب عليه “صندوق الفقراء”، والثاني مخصص لـ”الزكاة”، والثالث لـ”الأيتام”، وكان هناك إقبال من المصلين على إيداع الأموال بالتزامن مع دعوة الإمام للناس إلى التبرع لشراء سجّاد جديد للمسجد.
ومعروف أن السجاد المخصص للمساجد توفره وزارة الأوقاف كاملا، حسب خطة تضعها كل فترة لتوفير الاحتياجات العاجلة لدور العبادة، لكن أصبح يتم تحميل تكلفتها للمصلين عبر اللعب على مشاعرهم ودفعهم إلى المساهمة في الشراء تحت بنود جديدة بعيدا عن اختزال الأمر في مجرد صندوق.
واعتاد سلفيون في مصر الاستحواذ على النسبة الأكبر من أموال التبرعات التي تصل إلى المساجد، ويتم جمعها غالبا تحت مبررات كثيرة، بينها صيانة دور العبادة وشراء احتياجاتها، وتزويج أبناء البسطاء، والتكفل برعاية المحتاجين، وشراء الأغذية للفقراء، وكفالة الأيتام، في تحد سافر لقرار الحكومة بتجفيف منابع التبرعات للجمعيات الشرعية التي كانت تابعة للسلفيين في الكثير من المساجد.
وظلت صناديق التبرعات آخر حبال العلاقة بين السلفيين والمساجد بعد القرارات المتلاحقة التي أصدرتها وزارة الأوقاف وقادت إلى إقصائهم عن المشهد الدعوي وحرمانهم من الإمامة والخطابة، وحظرت عليهم تقديم الدروس الدينية واستبدلتهم بأئمة تابعين لها، لإصرار شيوخ السلفية على تبني خطاب يحض على التطرف ويتناقض مع نهج الحكومة في تجديد الخطاب الديني.
وعكس إصرار بعض المساجد على الاستمرار في جمع الأموال على سبيل التبرع حجم استفادة السلفين من التبرعات التي تصل من المواطنين بعيدا عن أعين أجهزة الرقابة، ليتم إنفاقها بطريقة تعود بالنفع عليهم، فأيّ إمام أو خطيب تابع لوزارة الأوقاف يصعب عليه مخالفة قراراتها لإدراكه مخاطر ذلك على مستقبله الوظيفي، لكن المشكلة ما زالت في الوجود السلفي في بعض المساجد.
وأظهرت ردود الفعل على شبكات التواصل الاجتماعي على معاودة وزير الأوقاف التحذير من جمع التبرعات، حجم التأثير الذي زرعه المتشددون في أذهان الناس بشأن صناديق المساجد، حيث يرى الكثيرون أنها تجلب النفع والخير والبركة، بينما ترغب الحكومة في السيطرة عليها عبر حسابات بنكية مخصصة للتبرعات.
صناديق التبرعات في المساجد المصرية تمثل لجماعات دينية أحد أهم مصادر التمويل بعد القرارات التي اتخذتها الحكومة ضدهم
وكانت الحكومة استبدلت صناديق التبرعات بحسابات مصرفية لكل مسجد، ويقوم المتبرع بإيداع الأموال به للحيلولة دون أن تذهب الأموال إلى جماعات لها أهداف مشبوهة، توظفها في تحركاتها المناوئة للحكومة، وتجييش البسطاء من خلال حثهم على المزيد من الدعم من بوابة العمل الخيري.
وما يعرقل التوجه الحكومي في هذا الشأن أن السلفيين يجدون ضالتهم في أشخاص يعتبرون المساجد مرآة للإسلام، والإيحاء بأن أموال التبرعات فرض عين على أصحابها، مع تصوير أنفسهم على أنهم التيار الذي يمثل الدين الصحيح، وهي إشكالية عجزت وزارة الأوقاف عن التصدي لها بحنكة.
ويرى مؤيدون للهيمنة الحكومية الكاملة على تبرعات المساجد أن ذلك يمثل ضربة موجعة للتنظيمات الإسلامية التي يعمل بعضها في الخفاء داخل المجتمع، وتتعامل مع أموال الزكاة والتبرعات باعتبارها السبيل الأمثل لاستمالة فئات بعينها تدين بالولاء لها، لأنها تقدم لهم يد العون والمساعدة، وتبقى المشكلة في غياب التفتيش والرقابة على المساجد من قبل وزارة الأوقاف، خاصة في المناطق الشعبية والريفية.
وتبرهن الخطوة الأخيرة على أن الحكومة المصرية لا تثق بالسلفيين وتضعهم في خانة واحدة مع جماعة الإخوان، طالما أن أهدافهم متقاربة، ومن الضروري الخلاص من الفكر المتشدد مهما كان الفصيل الذي يقف خلفه من خلال تبني إجراءات صارمة تحول دون استمرار تغلغلهم في الشارع وتكوين حواضن شعبية من بوابة العمل الخيري والإمامة والخطابة.
ويشير استمرار الوجود السلفي في المساجد، ولو بنسبة محدودة، إلى أن المعركة معهم ممتدة وتحتاج إلى نفس طويل من جانب الحكومة، بعيدا عن الاستسلام واليأس من الهيمنة الكاملة على دور العبادة في البلاد، وإبعادها عن التوظيف المشبوه في تحقيق مكاسب سياسية بالاستعانة بغطاء ديني.
وهناك منافسة بين السلفيين والإخوان في ملف البسطاء، حيث أطلقت الجماعة من قبل العديد من برامج الحماية الاجتماعية لتحسين المستوى المعيشي للطبقات الفقيرة واستقطابهم بعيدا عمّن يستميلونهم بالتبرعات، لكن السلفيين يتمسكون بمنافسة السلطة بالمساعدات لزيادة قواعدهم الشعبية إذا قرروا خوض انتخابات وترميم صورتهم.
وأكد نائب مدير مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة عمرو هاشم ربيع أن التوظيف السياسي المشبوه لتبرعات المساجد، يتطلب المزيد من السيطرة عليها، ومن الخطر أن يستمر السلفيون في تقديم أنفسهم كقوة موازية للحكومة اجتماعيا.
وطالب في تصريح لـ”العرب” بعدم وجود أيّ فصيل داخل المساجد سوى ما يرتبط بالدولة، مشددا على أن سيطرة الحكومة على أموال المساجد تضر بالسلفيين معنويا وماديا، وتكمن العبرة في الرقابة التي تحول دون وجود أيّ توظيف سياسي يتم من خلال بناء حصانة شعبية من البسطاء تحت غطاء المساعدات والكفالة.
ويبرهن تصعيد الإخوان عبر منابرهم الإعلامية في الخارج ضد قرار الأوقاف الأخير، على محاولة قيادات الجماعة وقف التبرعات التي تصل إلى قطاع غزة من المصريين رسميا، وهو ما يؤكد فطنة الحكومة في التعامل مع الإخوان والسلفيين كفصيل واحد في قضايا مختلفة مهما ظهر بينهما من خلافات، ففي النهاية هما يرغبان في السيطرة الكاملة على المساجد وتوجيه التبرعات للجهة التي يريدونها وإلغاء دور الدولة.