تيم نوردن يكرس مفاهيميته المطلقة لتفكيك واقع تحكمه المادة

فنان أميركي يشحن مواقفه البصرية بتصورات شفافة للوجود.
الأحد 2024/05/19
فكرة الأرض والمناخ والحياة والاستمرارية

تخترق المفاهيمية التي ينتهجها الفن المعاصر الكثير من القضايا الحساسة التي ترتبط بوجود الإنسان والبيئة والمجتمعات والسياسة والحرب والاستهلاك وغيرها مما يحاصر البشر، بينما يسعى الفنانون إلى الانتماء فقط إلى الإنسانية والفكرة قبل أي شيء آخر، ومن هؤلاء الفنان الأميركي تيم نوردن.

ولد تيم نوردن الفنان التشكيلي الأميركي سنة 1945، كان الفن بالنسبة إليه عالما خارق التوظيفات اختاره كمجال تعبيري خاض فيه مواقفه وعبّر عن انتماءاته الإنسانية ومواقفه من الفنون الاستهلاكية من سوق الفن وتسليع الفكرة الإنسانية.

اندمج الفنان مع كل الأساليب معتمدا على التجريب في التجريد والمفاهيمية ومواكبا لتطوراته الحسية والفنية والذهنية والبصرية والتماهي التقني معها، ليتفاعل مع الفنون البصرية المعاصرة ويتخذ من المفاهيمية المطلقة مسارا لتوجهاته ومواقفه سواء من خلال الأداء أو التجسيد أوالتركيب والتصوير، ما مكّنه من تنويع خاماته وعناصره وتجربته الجريئة ومواقفه المباشرة والجمالية والصادمة التي وظّفها على مراحل نضجه البصري والفلسفي والفكري.

التجريب والذات الإنسانية

اخترق نوردن بمفاهيمه التصورات المألوفة
اخترق نوردن بمفاهيمه التصورات المألوفة

اخترق نوردن بمفاهيمه التصورات المألوفة التي خاض فيها بكل انعتاق حر، راصدا الصدامات الفكرية التي عالجت راديكالية الواقع وقوالبه الجامدة وتصوراته التي تعلي الظلم المغلف بقوالب مختلفة في ثالوثها المألوف السياسة – الدين – المجتمعات الغربية.

فقد سعى إلى تفكيك ما تثيره تلك الصدمات بينها، محاولا اختراقها بسخرية وتهكم وبمفاهيم سلّطها منطلقا من فردانياته الوجودية وتصوراته الجمالية العميقة مكنته من تفسير رؤاه بصريا متكئا على حدسه وحدته وفوضاه الواضحة في فكره ومزاجه الشفاف بين كل التوجهات الحسية والفكرية والتنوع الثقافي.

لقد خاض الفنان في كل القضايا التي طالت الإنسانية، بدأ من العالم الاستهلاكي والتلوث البيئي والتداخلات الاجتماعية والقيم الأخلاقية والتصورات الدينية المتحكمة في المصائر الغيبية المغلفة بالتقوى والمبطنة في الحروب والقتال والمصالح الاقتصادية والسياسية.

إن نزوع تيم نوردن إلى الإيقاع يكمن في ما يخلق الاستقرار حتى يتجاوز التكرار المحسوب، وهو انسجام ميتافيزيقي وروحي، ليجسّد بنية معقدة تبدو بسيطة للوهلة الأولى، التي تنتاب المتلقي لأعماله في تفاصيلها التجريبية من التجريد إلى المفاهيمية المطلقة، فقد استطاع أن يسمح لخياله ومواقفه بخلق تلاعب فكري ثريّ في بصرياته الحسية والذهنية لتتماهى مع العلاقة الفنية والجمالية المتحكمة به، حتى يتجنب النقص الذي سيكون بمثابة إلهاء لهذا النظام البصري الفني المعاصر في رؤاه، حيث يضفي على العمل سواء كلوحة أو كبناء مفاهيمي القوة المنبعثة من اللمسة البسيطة، والمتكررة بين الخامات والسطح واكتمالاته المنعكسة على العمل في قيمته العليا بحيث يصبح مركز الاهتمام هو الكل في المشهد أو الصورة.

نزوع تيم نوردن إلى الإيقاع يكمن في ما يخلق الاستقرار حتى يتجاوز التكرار المحسوب، وهو انسجام ميتافيزيقي وروحي

تفسح السيولة المنسابة في اعتماد المجال للهندسة، حيث يقسم السطح على تشكل الحدود المنتشرة بين الألوان المتداخلة مما يوحي بالعمق، فيتم فرض لمسة كثيفة ومبهمة، يتأرجح الإيقاع من خلالها ككتل ذات شكل شبه هندسي، ويظل التنظيم فيها أقل خضوعا لنظام متحكم فيه في كل مهمة تعتمد على أخرى ومع اللمسة الأخيرة التي ينهي بها حركته في اللوحات.

وهنا تكتمل صورته القافزة به إلى التعمّق في المفهوم وهو ما يحيل على تجارب متنوّعة تأثّر بها نوردن مثل روثكو، خاصة من خلال اللمسة المضيئة والشفافة، أو التشابه للوهلة الأولى بين الفن البصري الهندسي، من خلال توزيع الأشكال على السطح أو اهتزاز الألوان، مثل رسومات الكمبيوتر، حيث من خلال المقارنة مع أعمال حركة “لوحة حقل اللون”، يبقى عمل نوردن في نهائيته، فرديا ويستجيب للتماثلات الخاصة وببصمته التي تعبّر عنها.

كانت بداية السبعينات عبارة عن سلسلة من اللوحات على زجاج شبكي، ويجب رؤية النتيجة على الجانب الخلفي، وهذه التقنية التي تتميز بالأشكال العضوية العائمة والفقاعية والسوائل تسبب نسيجا بصريا مذهلا على السطح حيث يتم إنشاء الأنماط في التوتر الذي يخضع فيه الأشكال والخلفية وهي تكنيك بصري قاده إلى الأداء والمفاهيمية التي اعتمدها حتى يعكس مواقفه على نقيضها الواقعي، لذلك كانت اللوحة المنطلق على اللون على الخامات المتنوعة والفوتوغرافيا.

المفاهيمية المطلقة

الفنان اندمج مع كل الأساليب معتمدا على التجريب في التجريد والمفاهيمية ومواكبا لتطوراته الحسية والفنية والذهنية والبصرية
الفنان اندمج مع كل الأساليب معتمدا على التجريب في التجريد والمفاهيمية ومواكبا لتطوراته الحسية والفنية والذهنية والبصرية

إن العبور في كل مرحلة نضج فني يعدّ تطويعا اندماجيا للخامة التي يقرّرها نوردن لتكون بطلة لأداء الفكرة المفهوم بكل حواسه ومواقفه يستجمعها ليستفيد من قيمها الفنية والجمالية ويعمّق معناها الماورائي، دون أن يستثني منها تداخلاته الفكرية ومعانيه الوجودية وألوانه ومسطّحاته وفضاءاته وتمثلاته الجسديّة بعلاماتها البصرية الدقيقة في التعبير، فالأعمال التي يحتويها متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية تجد تلك الملحمة البصرية والتقنية التي تفرّد بها نوردن في محاكاة الصراعات العرقية والدينية والحضارية في فكرة الحروب باسم الدين والقتل باسم الرب.

هي  ثلاث مراحل تعبيرية تقنية مفاهيمية حاسمة ساهمت في إشعاع تيم نوردن الفني وتدفقه البصري من خلالها، حيث طبع اسمه في لائحة أبرز الفنانين المفاهيميين الذين مزجوا بالفكرة الوجودية والفلسفية في حدود التصورات الجمالية المألوفة خاصة ما خاضه في توظيف الفكر اللاهوتي ومداه التشكيلي عندما تمكن من أن يتوافق به مع الدين والسلطة أو فكرة العبادة والتسلط.

وهنا توصّل إلى تناقضات الصورة وربط المفاهيم الدينية بالدنيوية والروحية بالمادية ليقوم بأداء استنتاجاته ومحاولة موافقتها مع قراءاته التاريخية والحضارية التي خلقت صدامات جغراسياسية، أوقعت العالم في الانفصال الذي حوّل الدين إلى أداة تسلط فكري ومذهبي وتعبيري خال من الإنسانية، ففي أعماله يتطرّق إلى كل الديانات البشرية مركزا على أسباب التناحر والصدام والحروب والإبادة والقتال مسخّرا علاماتها الحضارية كما في أمثولة “بوذا بين فكي القرش” أو “الإنجيل كتاب الرب”.

تلاعب فكري ثري في بصرياته الحسية والذهنية
تلاعب فكري ثري في بصرياته الحسية والذهنية

تلك الدلالات التعبيرية حمّلها لعناصر الخامة بعلامة بصرية مألوفة أراد أن يقدّمها تعبيرا عن التحكم الصيني في تحويل فكرة الديانة سياسيا وأيديولوجيا ليتحوّل فيها المعبود إلى أداة بين فكي العابد بحيث جسّد طغيان الفكرة الاشتراكية ومداها التحكمي في الفكر العام عنوة وغصبا فخلق صراعات وظّفها في انبعاثات اللون الأحمر ودلالته السياسية والحياتية بين فكرتي الحب والحرب، أو في أمثولة الكتاب المقدس والمجلات الكرتونية المطبوعة وهي الادعاء بالقداسة والتدين من قبل السياسة الأميركية في المطلق، تلك التي كانت واضحة في الحكم السلطوي الأميركي حيث إن مكتب الرئيس الذي يبدو مقدس الترتيب باتباع المذهب الديني اليميني كان في الأصل مغلفا بمجلات مصوّرة وقصص الأبطال الكرتونية الوهمية.

كما لم يغفل عن تجسيده الأدائي لسلطة الكنيسة في ثلاثيتها المقدسة والمجازات الرمزية في حمل العذراء، ثم الخواء الأجوف الذي عبّر عنه في ملابس بابا الكنيسة المتروكة على الأرض حيث ركّز على خطورة التمظهر لدى رجال الدين كقناع مكشوف يعني الخواء والتسلط والسخرية على السذج.

وهنا يوافق فكرته وموقفه المفاهيمي في المادة والدم والحرب في شكل الصليب المجسد بالدولارات ولونه الأخضر أوالصليب المليء بالمسدسات ولونه الأحمر أوالصليب المزخرف بالزجاج الحاد الذي بدا على شكل سيف أو التاج المقدس المدجج بالرصاص.

كما يلقي نوردن بمواقفه الحادة على الصهيونية المغلفة بالدين من خلال الصندوق الذي يختزل فكرة التجسس والحرب ويغلف في ظاهره بالنجمة المقدسة.

البيئة والحياة

محاكاة الصراعات العرقية والدينية والحضارية
محاكاة الصراعات العرقية والدينية والحضارية

يحمل نوردن فكرة الأرض والمناخ والحياة والاستمرارية كموقف بصري يخوض فيه تجربته المثيرة مع المفاهيم الدينية والاستهلاكية والتجارة الربحية مع الإله أولا ومع الفن بالخصوص. ينتقد في أعماله التجارة المشبوهة بالفن في تجربة الفنان داميان هيرست في عمله For the Love of God  (من أجل المحبة الإلهية)، منحوتته الشهيرة التي تعود لجمجمة رجل ثلاثيني من القرن الثامن عشر اعتمدت كمجسم فني نحت عليه تصميما لـ8601 ماسة أرادها هيرست تأملا راديكاليا لتفاهة الحياة رتبها على طبقة من البلاتين.

لكن إجابة نوردن كانت أن تحوّل بفكرته إلى تصوّر الثالوث المقدس على المراحل الزرقاء الباردة رغم أنها مرصعة بالجواهر من خلال ثلاث صور كثيفة في التعبير والمبالغة بجرأة تستدرج المعنى نحو التهكم الاستهلاكي وموقفه من تناقضات هيرست الفنية والجمالية والمظاهر الربحية التي تستغل كل التوظيفات لتعكس الطغيان والسيطرة بفم مغلق، ثم عينين بارزتين في الرؤية ثم جواهر لامعة على هيكل عظمي لوجه مرعب ثم جمجمة بلا روح كفكرة مفاهيمية لتلاشي الإنسان أمام المادة كتساؤل عن جدوى الفن والمال والشهرة أو الابتكار.

تيم نوردن يلجأ إلى خياله المعرفي وزخم علاماته ليقدمها بفكر نقي طيع أمام انحرافات الأفكار الإنسانية وتناقضاتها

ولم يتمثل موقف نوردن من هيرست في تصوراته الفنية التجارية فقط، بل أيضا اعتمد علاماته البصرية بشكل تضاد كامل لأطروحاته المتناقضة في التعبير عن موقفه من مفاهيميته خصوصا في تعامله مع الطبيعة ومع الحيوان ومع دلالة الأسماك وسمك القرش بالخصوص، فلا يمكن إنكار صيغ الرمز الفكري في مفاهيم نوردن.

يوظّف الفنان كل الأحداث والوقائع ويطّلع على تفاصيل الواقع عموما والواقع الفني بالخصوص بحواسه المبهمة وتفاعلاته المركزة ليفتتها بتناغم يتصاعد إيقاعه وفق سخريات ذلك التضاد الذي يتعايش مع فوضى الإنسان ويبدو هذا من خلال مفاهيمياته التي تتحدّث عن البيئة وعن المحيط وعن الثروات السمكية فالمحيط الذي صار مكب نفايات بشرية لا يزال عطاؤه قائما بالأسماك للإنسان المتناقض، هذا الإنسان الذي يلوث المحيط بنفاياته وفي نفس الوقت يأكل منها أسماكها.

هنا يركّز على رمزية “القرش” ومدى شراسة الفكرة وتحولات البيئة التي تقضي عليه وتحوّله إلى مجرد مجسم، وهنا تطغى الصورة على المفهوم المعتم في تصور تركيبي على فكرة المحيط ومساحاته الزرقاء ورؤوس الأسماك التي تطفو أو تختنق أو تحاول النجاة من مساحته المعتمة.

يطرح تيم نوردن تساؤلاته واستفهاماته النابعة من تصوراته الشفافة للوجود وينقل بدقة مدى تفاعله مع واقعه ولكنه يلجأ إلى خياله المعرفي وزخم علاماته ليقدّمها بفكر نقي طيّع أمام انحرافات الأفكار الإنسانية وتناقضاتها، فهو لا يفرق عن أسماكه المتصوَّرة التي تصارع في محيطها فهو أيضا يصارع القوالب الخانقة وينحدر من منعطفاتها الجارفة بعمق أحاسيسه النقية.

11