تيسير البطنيجي.. فنان الفراغ المتوغّل عميقا في الذاكرة الفلسطينية

ثيمات الغياب والذاكرة والهوية تحضر في معظم أعمال الفنان الفلسطيني، حيث ترتبط بالنسبة إليه بالتنقّل والترحال والمنفى.
السبت 2021/08/14
محاولات بصرية لتعقّب الغياب

باريس – يتواصل حتى التاسع من يناير من العام 2022 في متحف الفن المعاصر بالعاصمة الفرنسية باريس معرض الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي المعنون بـ”ما أمكن انتزاعه من الفراغ الذي يتوغّل”. وهو حصيلة خمسة وعشرين عاما من أعمال الفنان الذي ولد عام 1966 في غزة، ويقيم حاليا في باريس.

وتأتي أهمية هذا المعرض من أنه يعرض في مكان واحد، وعلى امتداد نصف عام مجموعة مختارة من أكثر من خمسين عملا فنيا من أعمال البطنيجي التي تنوّعت بين التصوير الفوتوغرافي والفيديو والرسم والرسم التخطيطي/السكتش والعمل التركيبي والفن الأدائي، بالإضافة إلى أعمال جديدة تُعرض للمرة الأولى.

تيسير البطنيجي: الرسم لم يعد قادرا على استحضار ما أود التعبير عنه، فاتجت إلى التجهيز
تيسير البطنيجي: الرسم لم يعد قادرا على استحضار ما أود التعبير عنه، فاتجت إلى التجهيز

ويستكشف البطنيجي فكرتي الفقد والذاكرة في جل أعماله التجهيزية/المفاهيمية، خاصة في عمله المرجعي “إلى أخي” (2012)، وهو سلسلة من ستون رسمة دون حبر محفورة على الورق.

ويعتمد الفنان على صور عائلية لحفل زفاف شقيقه ميسرة للاحتفاء بذكراه، فقد توفّي الأخ بعد عامين من زفافه، برصاص قناص إسرائيلي خلال الانتفاضة الأولى في فلسطين عام 1987.

وتوحي رسومات البطنيجي الحميمية من بعيد بصفحات بيضاء فارغة، لكن الاقتراب منها يُفصح عن سرديات عائلية واحتفالية دافئة، محفورة على الورق تتضمّن أشخاصا يرقصون يدا بيد ويتعانقون، ورجالا ونساء وأطفالا يتضاحكون، وعريسين يجولان بين المحتفلين والمدعوّين ويلتقطان معهم الصور.

وتأتي تلك الخطوط التي حُفرت بها مشاهد البهجة والاحتفالات العائلية لتُثير في النفس أسى الخسارة والفقد، وتلك مشاعر تتخطّى النزاعات المحلية والسياسية.

وتحضر ثيمات الغياب والذاكرة والهوية في معظم أعمال الفنان الفلسطيني، حيث ترتبط بالنسبة إليه بالتنقّل والترحال والمنفى، من خلال تفكيكه الدائم لمجموعة من الأشياء والمتعلّقات الشخصية وإعادة إنتاجها ضمن رؤية تجريدية توضّح موقع التاريخ والفن في مواجهة الاحتلال.

وفي ذلك يقول الفنان الفلسطيني “اتجهت منذ استقراري في أواسط التسعينات بفرنسا إلى التجريد أو التبسيط، حيث اختفى في لوحاتي شيئا فشيئا أيّ تمثيل مباشر أو غير مباشر للواقع، حتى بدأت أغطي لوحاتي باللون الأبيض بعد الانتهاء منها، أي تختفي اللوحة ولا يبقى منها إلاّ مساحات صغيرة متناثرة هنا وهناك، إلى أن توقفت عن الرسم بمفهوم اللوحة”.

ويوضّح “بدأت أشعر أنّ اللوحة ليست قادرة على استحضار الأشياء التي أودّ أن أعبّر عنها في أعمالي، هنا بدأت أتجه إلى اكتشاف وسائط أخرى، كالتركيب والنحت، ومن ثم التصوير الفوتوغرافي، حيث باتت تحتل الصورة الفوتوغرافية أو الفيديو منذ العام 2000 مكانا مهما في أعمالي”.

ومع ذلك لم يتوقّف البطنيجي تماما عن الرسم وخصوصا الرسم على الورق، حيث أن الرسم بالنسبة إليه “مساحة حرة للبحث والتفكير والتأمل”.

في جانب من المعرض تحضر مجموعة “انقطاعات” المكوّنة من مجموعة من الصور لشاشة الموبايل أثناء محادثات “واتس آب” أجراها الفنان مع عائلته في غزة بين الرابع والعشرين من أبريل 2015 والثالث والعشرين من يونيو 2017. صور مشوّشة بسبب رداءة شبكة الاتصال، تزّج بالمُشاهد في ذلك الفضاء الذي يختلط فيه التواصل الأسري بالصراع. واللقطات المعروضة هنا مؤرّخة طبقا لموعد حدوثها، حيث تمكن ملاحظة مدى التشابه بين سوء الاتصال ومواعيد الأحداث العنيفة التي تتكرّر في غزة.

Thumbnail

في هذا العمل يقدّم البطنيجي مقطعا من هذه العلاقة الحميمة التي تمتد بين عالمين، فهو تارة يرى والدته وتارة يشهد على اختفائها، كما تصوّر لقطات أخرى مشاهد كثيرة من الحرب، تحيل إلى ذلك الفضاء الذي يختلط فيه الخاص بالعام.

وهناك أيضا “تابولا غزة” المكوّنة من صورة لطاولة كانت مخصّصة للعبة الدومينو، في “جمعية الشبان المسيحية” بغزة، صوّرها البطنيجي عام 2005 عندما بدأت ألوان الفورميكا تختفي بسبب اللعب، معروضة إلى جانب الطاولة نفسها، حيث أحضرها من غزة عام 2013. اختفت الفورميكا تماما من وسط الطاولة محدثة هالة بيضاء تتوسّطها هالة أخرى يظهر فيها لون الخشب، هي أعمال تجهيزية تجسّد بعمق لفكرة الرحيل، البعد والمنفى والعلاقة مع المكان.

وفي تجهيزه الفني الأدائي “حنّون” (1972 – 2009)، يفرش البطنيجي على الأرض مئات التسنينات ذات الأطراف الحمراء الناتجة من تسنين أقلام رصاص. اللافت هو التاريخ الذي يعطيه البطنيجي لعمله “حنّون” عام 1972، كان الفنان حينها يبلغ من العمر ستّ سنوات لا غير، وهو المولود في غزة في العام 1966، لا بدّ من أنه العمر الذي كان فيه يسّن أقلام الرصاص مرارا وتكرارا هربا من تنفيذ واجباته المدرسية خلال عطلة الصيف.

أما العام 2009 فهو العام الذي قدّم فيه للمرة الأولى ذاك التجهيز الفني في بينالي البندقيّة الثالث والخمسين ضمن جناح خاص مكرّس لفلسطين. كأنّ فعل تسنين أقلام الرصاص لم يتوقف من حينها، منذ أن كان طفلا يُحاول الهرب من إنجاز واجباته الصيفية العبثية، إلى محاولة هروبه وهو فنان ناضج من إنجاز قراءة مباشرة للأحداث اليومية في وطنه.

ليس الهروب هنا، جبنا، بل بحث في الفعل المتكرّر، فعل لجأ إليه الفنان في العديد من أعماله السابقة. وهنا يحاول عبره أن يبحث عن قراءة بديلة، من مساحة شاعرية وهشّة معلقة بين الفعل ونتيجته.

ودرس تيسير البطنيجي الفنون في جامعة النجاح بنابلس قبل أن يحصل على منحة للدراسة في فرنسا عام 1994، استمر على إثرها بالتنقل بين البلدين، حتى أُغلقت المعابر المؤدية إلى غزة نهائيا في العام 2006 نتيجة الحصار، فاختار الفنان البقاء في منفاه.

15