تيد هيوز وسيلفيا بلاث ورطة الحب ومأساة الشعر

لطالما مثلت علاقة الشاعرين الأميركية سيلفيا بلاث والبريطاني تيد هيوز محل جدل وتكهنات وآراء متباينة، خاصة بعد انتحار بلاث، ورد ذلك إلى زوجها الشاعر الذي كانت تصفه بنعوت كثيرة، ما جعل المجتمع الثقافي يدينه والحركات النسوية تهاجمه على مر عقود، لكن لا أحد سمع وجهة نظر هيوز، فربما كانت للحكاية زوايا أخرى، وهو ما نجحت فيه رواية “أنتَ قلت” لكوني بالمن.
علاقة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث (1932 - 1963) بالشاعر البريطاني تيد هيوز (1930 - 1998) واحدة من أعقد العلاقات في الأوساط الأدبية؛ فالعلاقة التي بدأت بانجذاب بين الطرفين، ثم زواج سري، انتهت بانتحار مأساوي بعد أزمة نفسيّة حادّة وطلاق وتوجيه اتهامات بالخيانة واللامبالاة وافتقاد عاطفة الأبوة، بل اعتبرت الحركات النسوية الشاعر سببًا لانتحار الشاعرة، الأمر الذي فتح عليه باب الانتقاد والتجريح ووصْفه بأبشع الأوصاف من قبيل الفاشي والسادي والمتوحش والذكوري ومصاص الدماء والقاتل، وهو ما تفاقم بصورة كبيرة بعد انتحار عشيقته السمراء آسيا ويفل، بنفس طريقة سيلفيا، مستخدمة فرن الغاز سنة 1969، وإن زادت عليها بقتل طفلتهما “شورا” ذات السنوات الأربع، وهو ما أجّجَ الحركات النَسويّة ضدّ هيوز باعتباره الوحش الذي يجعل النساء ينتحرن.
عرضت سيلفيا بلاث في رسائلها ويومياتها الكثير من تفاصيل هذه العلاقة السّامة لكليهما على نحو ما سيُظِهره تيد أيضًا في رواية “أنتَ قلت” لكوني بالمن، بل أسهبت بلاث في وصف تعرجات وانحرافات العلاقة وأخاديدها السامة، وما عانته من جرّاء هذا الارتباط (الفاشل من وجهة نظر أمها) بتيد هيوز، وما انتهت إليه من اضطراب نفسي واكتئاب وتهيؤات، وسقوط بالمعنى المجازي والماديّ.
في المقابل التزم هيوز الصمت تمامًا قرابة 35 عامًا، منطويًّا على ذاته وإبداعه، متفاديًّا الخوض في تفاصيل العلاقة (بداياتها/ أزماتها/ انحرافاتها/ نهايتها) أو حتى محاولاً الدفاع عن نفسه من الاتهامات (حسب رأيه) التي طالته من الجميع بلا استنثاء، بما في ذلك الأصدقاء الذين ترددوا على شقتهما وشاركوهما السهر والطعام والشراب والرقص وقول الشعر. لم يخرج عن صمته إلا في كتابه الأخير “رسائل عيد الميلاد”، وفيه تعرّض لهذه العلاقة، وكشف أسرار علاقته بسيلفيا بلاث. ومع هذا ظلت سيرتهما بكل أسرارها مشاعًا لكتاب السّير الذين أضافوا البهارات اللازمة لتحقيق أعلى نسب مبيعات، فكما يقول أوسكار وايلد “المفكرون الكبار لديهم دائما مريدون وأتباع، غير أن من يكتب مذكراتهم هو دائمًا يهوذا”.
صانع الأكاذيب
تطرقت سيلفيا بلاث في كتاباتها (الرسائل/ واليوميات) إلى العلاقة العاطفية بينها وبين تيد هيوز، واصفة كافة تفاصيل هذه العلاقة منذ بداية التعارف على نحو ما جاء في رسالتها إلى أمها بتاريخ السابع عشر من أبريل 1956، وفيها تصف هذا الحب بأنه حب غامر، ثم تصف تيد هيوز هكذا “التقيتُ بأعظم رجل في العالم، خريج كامبريدج سابق، شاعر لامع، كنت أحب عمله قبل أن ألتقي به”، ثم تسترسل في وصف شعورها، بعد هذا اللقاء الذي تمّ في حفلة “كتبت عنه قصيدتي الأجمل، إنه الرجل الوحيد الذي التقيته وأشعر أنه قوي بما يكفي ليكون مساويا لي؛ يا لها من حياة”.
المثير حقًا أنها في هذه الرسالة التي تشرح فيها لأمها تعارفهما وتحكي الكثير عن صفاته ومدى حالة الانسجام بينهما تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة تيد التي ستكون سببًا لخلافهما المستمر في المستقبل، فتقول لأمها “هو مُحطِم للأشياء والأشخاص، لكن يمكنني أن أعلِّمه الرعايا وأستعمل كل ذرة حكمة أعرفها لتنمية اللطف فيه تجاه الآخرين”، ثمّ تأتي إلى الصفة الأهم والمرعبة في شخصيته ومع الأسف بناء على يومياتها تحقّقت وأصابها شيء منها، فهو “يجعل الآخرين يبدون مجرد شظايا، حب مزيج من العذاب والألم”. وبدءًا من هذه الرسالة يتكرر اسم تيد في يومياتها، ساردة تفاصيل علاقتهما وتأثيره عليها، فمنذ أن عرفته تشعر “لأول مرة في حياتي يمكنني الضحك والكتابة إلى أقصى حد”.
هكذا تُقدم سيليفيا تيد، وبعدها تبدأ في سرد زواجهما وحياتهما معًا، وحالة الفرح والسعادة وهي في معيته، وتنقلاتهما (بريطانيا/ أميركا/ أسبانيا) معًا وتعرّفها على أسرته، وكتابة الشعر وغيرها من التفاصيل اليومية، ودورها في نشر الكثير من قصائده، فقد وجدتْ فيه “الرجل الوحيد المناسب لي في العالم”، إلى أن تبدأ المشاكل بينهما بسبب خيانة تيد هيوز لها، وكانت القاصمة بدخوله علاقة مع صديقتها آسيا ويفل، وهو ما زاد من فتيل الصراع بينهما، فبدأت الرسائل التي ترسلها (إلى أمها وطبيبتها) بمثابة الدوافع التي تقف خلف ما أقدمت عليه في ما بعد، حيث كشفت عن الجحيم الذي تعيش فيه، وهو ما آل بها إلى أزمة نفسية حادّة.
ومع القسم الخامس من رسائلها (1961 - 1963) يختفي المرح الذي كان يطل من رسائلها السابقة، فيتوجه الكثير من هذه الرسائل إلى طبيبتها النفسية روث بيوشر التي كانت تُكِنُّ لها مشاعر ودٍّ واحترامٍ كبيريْن، بل وتسميها “الأم الروحية”، فتحكي لها عن مضايقات أُلوين (أخت تيد) عندما زارتهما، والإحساس بالامتهان من كلامها، وانتقادها غير المباشر لها، وإن كانت ثمة عوامل أخرى سببًا في تأزم حالتها نفسيّا، منها أنها فقدت طفلاً كانت حاملاً به. هكذا بدأ الحزن يخيم على حياتها، ويصبغ وجهها، حتى إنها في رسالة لها تقول “أشعر أنني تائهة في عرض البحر”، وفي هذه الرسالة تبدأ الشكوى من تيد، وما يُبديه من سخط وتبرم من زواجهما، وكيف أنه أضاع عليه فرصًا كثيرة، بل ارتدّ به إلى الخلف، فهو يريد أن يُجرِّب كل شيء في الحياة، والزواج -بالنسبة إليه- أعاق تحقيق هذا. وتشرح لطبيبتها تأثير الشك في وجود علاقة بين تيد وآسيا؛ إذ لم تعد تستطيع النوم، ولا الأكل، والأهم أنها لم تعد تثق فيه مرة أخرى، بل راحت تلوم نفسها لأنها منحته ثقتها في الماضي، ووصفت نفسها بأنها “حمقاء”.
ومنذ تلك اللحظة تعددت الكتابات التي كالت فيها الشّاعرة الاتهامات لتيد؛ في إحدى رسائلها إلى أمها أوريليا شوبر بلاث بتاريخ الثلاثاء التاسع من أكتوبر 1962، حيث كشفت تأزم العلاقة بين الطرفين وعلاقته مع صديقتها آسيا وتناميها مع غيابه غير المبرر، تقول صراحة “تيد واقع في الحب، وسوف يتركنا هذا الأسبوع، سيعيش مع آسيا ويفل المتزوجة سابقًا من ثلاثة رجال، أعتقد أنه سيتزوجها على الرغم من أنه لن يعترف بهذا الزواج بعدئذ، إلى الجحيم المهم طلاقي منه وهذا هو الشيء الوحيد الذي أسعى له الآن، إنه يريد الحرية المطلقة، ولا أستطيع أن أعيش متزوجة قانوناً من شخص أكرهه الآن وأحتقره، فسقه الذي عَيشني به قتل كل عواطفي لمدة ست سنوات، كان ينتظر فقط فرصة للهرب مني، كان يشعر بالملل لأن نساءً جميلات كن ينتظرنه كما علمت، طلاقي منه بسبب عدم إخلاصه لي وأستطيع أن أبدأ حياة جديدة، أنا أكافح على جميع الجبهات، يجب أن أقف على أرضية صلدة. لقد كان قاسيًّا، قاسيًّا، خبيثًا، جبانًا، وقد سقط اللحم من عظامي، لكني عنيدة، أنا سأقاتل من أجل حياتي”.
وفي رسالة أخرى بنفس التاريخ السابق إلى الدكتورة روث بيوشر تقول “كان تيد قد ترك لي أكاذيب كثيرة، ولكن شيئًا فشيئًا بانت حقيقته، لقد كان يبني حياة سرية في لندن طوال فصل الصيف، حسابا مصرفيّا وامرأة أخرى، لقد كذب حتى النهاية”.
الطعنات التي كان يوجهها لها تيد -حسب رسائلها- كثيرة، فهو كان يمارس الجنس مع آسيا، ويسجلها باسمها في الفنادق، كما كان يسمح للأصدقاء والمعارف برؤية هذا، أما هي فكانت تصنع كل الأشياء الصغيرة (الغبية) بحب، كصنع الخبز والفطائر، والرسم، صبغ الأثاث، زراعة الزهور وخياطة المستلزمات للأطفال. لم تكن تُكِنُّ له مشاعر الحبّ فقط، والتي ترجمتها في أعمال لم تشعر بلذتها إلا لكونها تفعلها له، بل كانت أيضًا تحمل له مشاعر أبوة، فتصبح كالمحمومة إذا تأخر عن العودة إلى المنزل، خوفًا من أن يكون وقع له حادث، فتحوّل تيد من الرجل المناسب لها إلى شخص “يخرج ويضاجع مختلف النساء ليعود مرهقًا، ومتحفّزًا للكتابة وتناول الطعام…”، لكنه نسي أنها لم تعد دمية يمكنه أن يكذب عليها ويستمتع بذلك. اللافت أنه رغم هذه الصدامات والندوب إلا أنها لم تنقص من قيمة كتاباته؛ فهو كاتب عظيم ورجل وسيم للغاية.
فكرة الخيانة في حدّ ذاتها سببت لها أزمة ثقة في طبيعتها كأنثى، فراحت تُفكر وتبحث عن سبب الهجر في تكوينها البيولوجي، وانتهت إلى أنها ليست سمينة، بل نحيفة ومقاس خصرها هو نفسه، ويمكنها أيضًا التأنق وارتداء مختلف الملابس، وإن كان أنفها غير قابل للتغيير فإن شعرها طال كثيرًا. هكذا بدأت تفتش عن النقص الداخلي، وكأن فعل الخيانة في حد ذاته تشكيك في المرأة كونها امرأة / أنثى، وأن قرينتها تمتلك ما تفتقده هي. ربما من الأسباب التي أزمت هذه العلاقة أنها مع تأكدها من خيانته لها (في الرواية لن ينكر هذا، بل يروي مشهد رؤيتها لهما في المطبخ في منزلها) كانت ترفض فكرة الطلاق، فهي روحيًّا وجسديًّا متزوجة من هذا الرجل، كما أنها عاهدت نفسها من قبل على ألا تتركه أبدًا وأن تكون زوجته حتى الموت.
تعترف بأن السنوات الست التي عاشتها معه هي سنوات عاصفة، وأن الحياة معه متدهورة ومعذبة، عانت فيها القهر وأصيبت بالرعب والغضب، لكن مع هذا كانت رائعة أيضًا، حيث قادت كليهما من لا شيء إلى الكتب، الشهرة، المال، طفلين جميلين وحبّ رائع…، أما الرجل الذي أحبته كأب وزوج مات. تقتنع في نهاية الأمر بأن زواجها كان سيئًا، ويكفي أنها وهي تقارن قصائدها التي تكتبها الآن (أي بعد تحررها) وتلك التي كتبتها في سنوات الزواج تجد فارقًا كبيرًا بينهما، فمن قبل كانت القصائد مثل الطيور المحنطة الخياليّة، المحبوسة داخل جرة جرسية، أما الآن فجميع قصائدها -التي تكتبها بشراسة من السّاعة الرابعة حتى السّاعة الثامنة قبل أن يستيقظ الأطفال- أغنيات رائعة وكاملة.
تيد هيوز في الرواية يقدم رواية أخرى عن سيلفيا بلاث كخائنة وقاسية ويسعى لتصحيح المغالطات والشائعات
التحرّر الأكثر من هذه العلاقة السّامة، من وجهة نظرها، أنها عادت تلتفت إلى نفسها بوصفها أنثى، فقد لاحظت خلال ست سنوات من زواجهما أنها لم تشترِ شيئًا لنفسها من الملابس، كل ما كان لديها يعود إلى زمن دراستها في كلية سميث، ولم تكلفه شيئًا، فكان يرى أن الملابس أمر سطحي، الآن اكتشفت الأنثى في ذاتها، فقصت الجزء الأمامي من شعرها واشترت ملابس مختلفة وأحذية، المثير -وهو ما يعد انتصارًا- أنها عندما قابلت تيد في قطار لندن لم يتعرف عليها. حياتها الجديدة بدأت بغيابه هو.
ترسم سيلفيا صورة لتيد (نقيضة لتلك التي سيظهر بها في الرواية) تبعده فيها عن دور الزوج والأب، بل تجعل منه أنانيًّا لا يفكر إلا في نفسه وعمله وملذاته، وفي سبيل هذا لا يتوانى عن إهانتها وإهمال ابنيهما فريدا ونيكولاس، ولم تكن لديه الشجاعة ليعلن لها أنه لا يريد أطفالاً، كما يفتقر إلى الانضباط، ويتصرف بعشوائية وأحيانًا بنزق، فهو ينفق باستهتار ولامبالاة.
بالأحرى فشل في أن يكون رجلاً للبيت (سيرد عكس هذا في الرواية)، فكل شيء ألقاه على كاهلها، فواتير البيت والضرائب. هو يريد أن يعيش حياته الخاصة، فغدا مصاص دماء، دمر وقتل كل شيء في حياتها. كما بدا مستغلا سيئًا، فهو يعلم رعبها وخوفها من تكرار تجربة أمها؛ فكان دومًا يضغط عليها بقوله إنها “ستكون مثلها”، ومن ثمّ راحت تحتقره وتكرهه، وترغب في الطلاق كي تسترد ذاتها وكرامتها وحياتها. فقد حبسها في كيس وأصبح كل جهدها وطاقتها أن تكافح “من أجل شيء من الهواء والحرية والثقافة والمكتبات في المدينة”، خاصة وأنها سئمت من حالة التبرم وإظهار العيوب والأخطاء التي بدا عليها.
ما إن يعود من إحدى سفرياته إلى لندن حتى يفرغ غضبه بتحقيرها بالعبارات المهينة: ” تبدوين متعبة ومتوترة… أي نوع من الزوجات أنت”، وكأنه يعود إلى المنزل لا لشيء سوى جعل حياتها تعيسة. كان قاسيًّا في معاملته لأطفاله، والأسوأ أنه يعمد إلى تشويه صورتها أمام الآخرين، ويشكك في مداركها العقلية، محاولاً إظهار عجزها ومرضها كنوع من إشعارها بالنقص. ورغم كل ما فعله معها ظلّت تحبه، تقصد تيد القديم، أما تيد الآخر فهو يقتلها لأنه يراها قبيحة وبغيضة، تأمل عند اختفائه في أن يعود الهواء النقي مجدّدًا.
صيّاد نساء

هكذا رسمت سيلفيا بلاث عبر رسائلها صورة للشاعر تيد هيوز؛ صورة في كل علاقاتهما، الحب والصداقة والزواج والخيانة والطلاق، وكيف أنه سبب ألمًا كبيرًا لها، ألمًا نفسيًّا في المقام الأول، حيث سعى لتشكيكها في ذاتها بالتقليل منها واتهامها بالتقصير وغيره. لكن هل بالضرورة كل ما ذكرته سيلفيا بلاث حقيقي؟ هذا هو السؤال. ومن ثم كانت أهمية الرواية التي أصدرتها الكاتبة الهولندية كوني بالمن بعنوان “أنتَ قُلت” (ترجمتها لمياء المقدّم) والتي أعطت الصوت لتيد ليعيد ترسيم العلاقة من منظوره هو، بعدما راجت صورته (بكل التشوهات) من منظور سيلفيا فقط.
تبدأ الراوية بتيد هيوز معلنًا عن ذاته بضمير المتكلم المفرد أنا، وكأنه في هيئة محكمة يدافع عن نفسه، ويسعى لتصحيح هذه المغالطات والشائعات التي استمرت على مدى الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة، وهو في حالة عجز واستكانة دون أن يقول لنا لماذا هذا العجز وتلك الاستكانة؟ ومن منعه قبلها من تصحيح الصورة الزائفة والدفاع عن نفسه؟
الرواية بقدر ما تسعى لتصحيح الصورة التي أصابت حياتهما بالتعفن تحت طبقة من المغالطات والشائعات، فإنها في الوقت ذاته ترسم صورة لسيلفيا على غرار الصورة التي رسمتها لتيد في الرسائل، صورة سلبية على مستوى شخصيتها وإبداعها كذلك، فهو يرى أولاً وقبل كل شيء أن “بها شيئا من التعصّب الديني، شيئا من الرغبة الجامحة… كانت ترغب بقوة في أن تقتل داخلها الشخصية القديمة المزيفة الطامحة دومًا إلى العنف”.
سيلفيا بلاث عبر رسائلها رسمت صورة لتيد هيوز في كل علاقاتهما بين الحب والصداقة والزواج والخيانة والطلاق
هي بالنسبة إليه كائن مزيف، تبدو على عكس حقيقتها، ولذا يسعى جاهدًا لكشف حقيقتها التي لم تكن بها مع طفليها. وتأكيدًا لهذا يقول هيوز “إننا نحن المتعاطفين تماما مع سيلفيا بلاث لم نعرفها جيدًا، فمن عرفها ظاهريًّا لم يكن ليتكهن أبدأ بأنها تخفي داخلها مقاتلة شرسة، وأنها أكثر بكثير من تلك الفتاة الأنيقة التي ترفع شعرها ذيل حصان، أو الصبيّة التي تُوحي بها لأول مرة، كانت أكثر تعقيدا من ذلك”. وفي طور ثالث صارت الرواية بمثابة تفنيد لكل الادعاءات التي روّجتها سيلفيا في مذكراتها، وكأننا إزاء حالة من المعارضة الأدبيّة.
ومثلما اعترفت هي لأمها بحبّه يعترف في بداية الرواية بأن حبهما كان حقيقيًّا، وأنه أحبها منذ أول يوم وحتى آخر يوم في حياته، وتأكيدًا على ما يصطرع داخلهما من عواطف جيّاشة وجنون إلى حدّ النزق لم يكن اللقاء بينهما يتمّ بالعناق وإنما حسب قوله “كنا نهجم على بعضنا البعض ونكاد نشتعل من الرغبة والشهوة والسعادة”، وإن كان يؤاخذها على عنفها، فمنذ اللقاء الأوّل عضته في خده، ومع الأسف يستشف من هذا العنف والجموح بينهما أن الحبّ بالنسبة إليها مرادف “للعنف أو القتل”، لذلك فسّر انتحارها بأنها -حسب قوله- “رغبت في سجني داخل موتها إلى الأبد، وتذويب جسدي داخل جسدها الغائب”.
يتبادلان القسوة في وصف كليهما، فمثلما كان عندها قاسيا مدمرا فإنها عنده عبارة عن “برميل مليء بالسم تنبعث منه رائحة زكية”، الحب الذي وصفته لأمها يراه مرادفًا للكراهية، فالحب والكراهية لديها يستويان، تريد أن تعشق وتحب في الوقت نفسه. ومن ثم كانت في حاجة إلى من يعيدها إلى نفسها وقد كان هو “الطيب السّاحر” حسب وصفه لنفسه، فقد “وهب الفتاة الهشة المجروحة حقيقتها” فصار “الثائر الذي حطّم صنمها، وحرّر روحها”، ولم يفعل هذا إلا لأنه أحبها، نراه يُغالي في إظهار الدور الذي لعبه في حياتها، فبتأثيره فض غلالة القشرة التي “كانت تغلفها” كي يخرج من تحتها المرأة والشاعرة، بل وكان له الفضل الكبير في إيجاد صوتها وإسماعه للآخرين، وترويض لسانها الحجري على الرقص على إيقاع روحها، أي عمل على تشذيبها وترويضها، فهي الجامحة في الحب وفي الكراهية.
يعيد ترسيم بداية العلاقة منذ لقائهما الأول، وكيف أنها ظهرت أمامه فجأة كإلهةٍ تمشي على ساقين طويلتين، ويعترف بأن اسمها كان قد سبقها إليه من خلال الشائعات والحكايات التي يتداولها الطلبة بأنها: الأميركية التي صدر لها عدد من المؤلفات. لكن الصورة الأولى كانت أشبه بفتاة مستهترة “ترقص بشيء من الانفلات واللامبالاة، نصف ثملة، نصف مغيّبة”، المثير حقًا أنه عندما خطط لاصطحابها إلى غرفته، وقد وسّط صديقه لوكاس كي تقبل، أخبرته في الغرفة بأنها كتبت قصيدة بعد لقائهما الأول، وما فهمه منها أنها اعتبرته “صيادَ نساء، وسارقَ قلوب، أو نمرًا أسود يلاحقها”، ويشيد بموهبتها في قراءة أفكار الآخرين والتكهن بالأحداث قبل وقوعها، وقد تنبأت بأنه يومًا سيكون هو موتي” وقد خشي أن تكون عرافة وتتحقق النبوءة وقتها، قالت “أوه بل أنا كذلك” وقد حدث، في هذا اليوم وهما يتحدثان عن التقاطعات والمشتركات في حياتهما، من حب يتيس وبلاك لورنس ودوستويفسكي وقراءة الأساطير، كانت هي تحب أن تلعب دور فيدرا التي أنهت حياتها بالانتحار.
الشاعران يلاحقان بعضهما البعض بالتهم ذاتها، الخيانة والإهمال والتقصير والعنف والإيذاء وغيرها، وبذلك أضحتِ الكتابة ساحة حرب
ومثلما هي لم تبخسه حقّه في كونه شاعرًا ماهرًا موهوبًا ورجلاً بارعًا ظلت تحبُّه حتى بعد طلاقهما، لم يبخسها هو حقها فهي لديه “شاعرة، جميلة، مكشوفة وغامضة، موهوبة ومتحفظة، مدهشة وخطيرة” وإن كان يعود له الفضل في اكتشافها لصوتها. وبقدر ما يصف جموحها وتمردها حتى في علاقتهما الحميمية، يصف إعجابه بكتابتها ورغبتها في الحياة، حتى مع محاولتها الانتحار من قبل، إلا أنها مازالت تقاوم وتصر. في وصفه لها كان يبدو منبهرًا بهذه الطاقة اللامتناهية في الحب والجنس ورغبتها في الكتابة التي تعادل رغبتها في الحياة. كانت أمامه كتابًا مفتوحًا منذ أول لقاء جمعهما بمفردهما، حكت عن عائلتها وعن حالات الاكتئاب وعلاقتها بطبيبتها بوتشر وعن جلسات الكهرباء، ورغبتها في تدوين تجربتها مع العلاج الكهربائي.
الرواية في أحد جوانبها محاولة لتصحيح الصّورة المشوّهة عن ذاته، وكأن الذات في حالة دفاع عن أناتها، حتى ولو كان على حساب الطرف الآخر، إلا أن الجانب المهم يتمثل في اعتبارها سيرة غيرية لسيلفيا بعيون تيد، صورة تمزج بين الإعجاب بالشخصية وانتقادها، بين السقوط في حبها ومحاولة الهروب والابتعاد أو الانسحاب. فيسرد تفاصيل عن سيلفيا، وعوالم حياتها الخفيّة التي لم تفصح عنها في كتاباتها على نحو علاقتها بأبيها الذي مات وهي طفلة وراحت تبحث عنه في تيد، وكذلك علاقتها بأمها التي تبدو غير تلك المرسومة في الرسائل، فهنا مسكونة بهاجس الخوف من تكرار نموذج الأم.
الآخر المشوّه
يرسم تيد لها صورة بتمهل وتروّ، والعجيب أنه يعكس ذاته على هذه الصورة، فأحيانا يسعى لتبرئة ذاته، إلا أنه في الواقع يدينها؛ كأن يتخذ من المذكرات واليوميات التي كانت تكتبها دليلاً على محاولتها لَي عنق الحقيقة وتزييف الأحداث، مثلا يقول إنه اكتشف في مذكراتها أنها لم تكن تعتبره الشخص الذي تريده وتبحث عنه، وإنما على الأرجح -حسب الراوي الأنا العائد عليه في الرواية- “كنت واحدًا من متنافسين كثيرين”، ففي كل حادثة يستحضر حكاية عشيقها الفرنسي آدم على غرار استدعائها لحكاية آسيا ويفل في كل رسالة إلى طبيبتها النفسية. فحبها له عنونه بأنه حب من نوع المجاملة أو ردّ الجميل، فهي كانت ترغب في “حب تكون فيه جامحة تمامًا، في حالة سقوط حر”، وكأنه يبحث عن مبرر ليصفها بـ”الطيبة الزائفة القبيحة”.
يكشف أنها كانت على علاقة بآخر أو كما يسميه بمتنافس، وأنها في رسالة عثر عليها هددت هذا العاشق بالانتحار إذا أصر على تركها، وأن رحلة سفرها إلى عدة مدن أوروبية بعد تعارفهما ليست رحلة استطلاعية بريئة وإنما سافرت لتجميع أناها الممزقة إلى نصفين، وإيجاد نصفها الثاني، في إشارة إلى أنها إذا كانت وصفته بالخيانة وهما متزوجان وكان يتركها في المنزل الريفي مع طفليها، ويذهب إلى لندن لمدة أسبوع ليعيش مع صديقته آسيا، فهي أيضًا خانته؛ ففي الوقت الذي جلس بلا شهية أمام الطعام يتلوّى كأحد العاشقين، تركته هي الأخرى لتبحث عن نصف أناتها الممزقة، فيظهر وكأنه العاشق الذي اكتوى بنار العشق، أما هي فغير مبالية ولا مهتمة، بل لديها من تهبه حياتها وتبحث عنه، وتهدد بالانتحار إذا رحل! وهو الأمر الذي جعله يشعر بالإهانة والهجران! (والتعجب من عندي).
على مدار أحداث الحكاية لا يكتفي الراوي الأنا العائد على تيد بالتقليل من موهبة سيلفيا مقارنة بتضخيم موهبته وحسن استقباله من قبل الشعراء الكبار وتتويجه بالجوائز ونشر قصائده في المجلات ذائعة الصيت وقتها، وإنما يعمد إلى تهميشها مقارنة به إذا ضمهما مجلس شعر أو صحبة الكتاب والشعراء، ويستعرض مواقف فيها إهانة لموهبتها على نحو ما حكي عن الشاعرة مور التي أرسلت إليها سيلفيا قصائد طالبة أن تزكيها لمنحة، وكان ردها قاسيا وعنيفًا، وهو ما جعل سيلفيا تجلس ككلب مهزوم ومنهار.
في رسائل سيلفيا يأتي ذكر أخت تيد وتعبّر سيلفيا عن سخطها منها، بسبب معاملتها الحادة والمتعالية عليها، وفي الرواية يدافع تيد عن أخته، بل يحيل إليها تنبؤها بجحيم هذه الزيجة، وعلى طول خط الرواية يؤكد على جحيم هذا الزواج، فهو لم ينكر أن زواجه بها قيّد خططه المستقبليّة، ففي حديثه عن رحلته إلى إسبانيا ذكر أنه كان يخطط لأن يبقى سنة كاملة في هذا البلد، يعيش على عائدات تدريس اللغة الإنجليزية للراغبين، إلا أن زواجه بفتاة مازالت تدرس في الجامعة صعّب عليه الأمر، وبات ضربًا من المستحيل أن يبقى يومًا واحدًا بعيدًا عنها.
وعلى عكس ما انتوى تظهر شخصيته المتجبرة والمتحكمة، وسيطرته على شخصيتها، بإخضاعها إلى التنويم، بل وصلت به قدرته إلى التحكم في عملية هضمها، وفي دورتها الدموية نفسها، بل صار قادرًا على التحكم في بداية ونهاية دورتها الشهرية، وتخفيف ألمها. لم يكن رأيها في أخته أُلوين عشوائيًّا بل كان متبادلاً، فالأخت نفسها رأت أن أكبر حماقة ارتكبها أخوها هي الزواج من هذه المرأة. وقد عزا حالة الشك في علاقته بأخريات إلى أن زوجته تتمتع بخيال خلاق، وتهيؤات عن وجود علاقات آثمة بينه وبين عشيقات لمجرد أنه اختفى عن عينيها.
يظهر بصورة الزوج الرؤوم والعطوف أثناء أزماتها ونوبات مرضها، حتى أثناء الدورة الشهرية، وحاميها أثناء حملها، والناصح والملهم أثناء كتابتها للشعر، فدوما يسدي لها نصائح حول كتاباتها، سعيًا للبحث عن صوتها الخاص، بل بالمعنى الحرفي كان زوجًا مثاليًّا يطلي الجدران ويحمل الكراتين، ويرتب الأثاث ويشتري البقالة، ويساعد في أعمال المطبخ وإعداد الوجبات بلا ملل ولا كلل، وهو ما جعله يصير في نظر البعض “الكلب الوفي أو الزوج الغافل والمستغل” الذي لا يرى سوء معاملة زوجته له وتطلبها، وقد خال نفسه بعد وفاتها أنه مثل الراعي الذي حمى الذئب من كلابه النابحة، فترك للذئب فرصة عضّه، وهو ما يظهر عكسه في مذكراتها ورسائلها.
أحيانًا يقدم تبريرات عجيبة لبعض الأحداث، فمثلا يذكر أن بيت لندن كان هو السبب في طلاقهما؛ إذ فتح البيت بابًا للخونة الذين أطاحوا بحبهما وحياتهما كلها أو ما بقي منها، “فقد كانوا ينقلون كل ما يحدث داخل بيتنا الصغير، صمتها العنيف، غيرتها وتملكها، وداعته المبالغ فيها التي تصل إلى حد البله”، أما العلاقة المتوترة بينها وبين أخته ألوين فيرجعها إلى الغيرة حيث أن أخته كان لديها طموح من قبل أن تصبح كاتبة، ولكنها فشلت، وإن كان ثمة سبب آخر يتمثل في حبها المحرم لأخيها، إذ كانت ترفض أن يكون أحد قريبًا منه.
أما علاقته بآسيا ويفل فنتجت دون إرادته، منذ أول ليلة التقاها، طاردته في خياله، وعند الصباح كان قد وقع في حبها ووقعت في حبه دون أن ينتبه أحد. ويعتبر أنه فقد نفسه بالكامل فيما يشبه التضحية لمساعدتها على ولادة الشاعرة الأصيلة داخلها، وإيجاد صوتها الحقيقي المتفرد، وهذا لا يمنع أن يكرر بصورة مجملة أنها لم تكن تملك الكثير من الخيال، كما لا تملك أذنا إيقاعية، وأحيانًا ما تكتبه لا يثير إعجابه ولا يحرك شيئًا فيه.
وفي محاولة لتشويهها يلمح إلى رغبتها في التخلّي عنه عندما يقارن بينها وبين وضعية طبيبتها بوتشر في أنها أم ومطلقة وتخلت عن أبنائها حتى تبدأ حبّا جديدًا دون عراقيل. آراؤه في كتاباتها قاسية، فهي تكتب وكأنها تتخلص من سُمِّهَا السّام، على عكس ما صوّرتْ إهماله لواجباته كأب لطفليهما، فيصف مشاعر حملها الأول، واعتباره كارثة تؤجل المشاريع التي خططا لها، وبتعبيرها أفسد عليها الحلم ووقف حجرة عثرة في طريق خطتها، كانت الكتابة والشهرة أولاً، ثم الأطفال وشرائح اللّحم المشويّة.
عبر هذه العلاقة الإشكاليّة نحن أمام الصورة ونقيضها، فالاثنان يلاحقان بعضهما البعض، بالتهم ذاتها، الخيانة والإهمال والتقصير والعنف والإيذاء وغيرها، وبذلك أضحتِ الكتابة ساحة وغى، أو أشبه بالأنياب المتوحِشة التي راحت تلتهم كلّ الجمال والخِصال الطيبة التي قدمها الإبداع، بما فيها من صورة مثالية، فتوقفت عند الصّورة القميئة التي نتوارى منها ونتجاوزها أحيانًا.