تيار متدفق في غير مساره

"فلسطين عربية" شعار تصدح به حناجر الجماهير التونسية في الشوارع والساحات، على مختلف فئاتها العمرية وشرائحها الاجتماعية ونخبها السياسية والثقافية، كلما استجد طارئ إقليمي أو دولي ينكش الجرح الفلسطيني النازف منذ ثلاثة أرباع القرن.
تعاطف أهالي الشمال الأفريقي عموما مع القضية الفلسطينية قديم قدم طابعها الإسلامي في نظر أجدادهم الذين هب الكثير منهم لنجدتها عام النكبة، على الرغم من أن أراضيهم كانت محتلة من قبل المستعمر الفرنسي.. وتلك مفارقة غريبة عجيبة قد تلخصها نظرية “المركز والأطراف”.
هؤلاء الذين عرفوا مشرقيا بسكان المغرب العربي الكبير، على سبيل التعميم والتوسع، ودون النظر والتدقيق في المكونات العرقية والثقافية لتلك المجتمعات، يجلّون المسألة الفلسطينية إلى حد التقديس بل ويبجلونها على مجمل قضاياهم حتى وإن كانت معيشية ومصيرية.
◙ خرجت من الخزائن والأدراج القديمة الأغاني الثورية ذات الدور التعبوي التحفيزي، لتصدح بدل موجة "الفن للفن" التي ازدهرت في السنوات الماضية، لكنها سرعان ما أفسحت المجال لمقولة "كل شيء للقضية"
يكاد لا يبالغ المرء حين يقول إن عدد الذين يطوقون رقابهم بالزنار الفلسطيني في رمزيته التعاطفية يضاهي عدد الذين يحملونه في الأراضي المحتلة، وأن عدد الأعلام الفلسطينية في ساحة مبنى الاتحاد العام التونسي للشغل، مثلا، أكثر من تلك الأعلام المنتصبة قرب مبنى الحكومة في رام الله.
ولا يكاد يطل قيادي نقابي أو حزبي على حشد جماهيري في مهرجان خطابي بتونس إلا وهو يتشح بالزنار الفلسطيني طلبا للتعاطف ودغدغة لمشاعر الحاضرين، حتى ليظن المرء أنه قيادي من منظمة التحرير.
وفي هذا السياق تروى الطرائف والنكات وتتجرأ رسومات الكاريكاتير على طرحها حتى في المخادع الزوجية أو في المقابلات الصحفية كذلك المواطن العاري الحافي الذي يجيب المذيعة حين تسأله: ما هي مشاكلكم في البلاد؟ فيقول وهو يرتجف من شدة البرد والجوع: فلسطين.. لا نريد إلا تحرير فلسطين.
ترى، ما الذي ارتقى – أو انحرف – بالقضية الفلسطينية في أذهان التونسيين خصوصا، من حركة تحرر وطني عادلة إلى شيء شبه مقدس يظهر على شكل شعارات تزين الحيطان في الأحياء الفقيرة وتتضمنه الهتافات في الساحات العامة، ويتجلى أوشاما على الزند والسواعد الذاوية كتعديل للجسد البشري واستعادة علامات خالدة في الفضاء الاجتماعي، وفق التفسير الأنثروبولوجي.
عوامل عديدة جعلت من القضية الفلسطينية في تونس حجر زاوية في كل خطاب تعبوي بات يلعب، وللأسف، دورا تخديريا مضللا لدى بعضهم، ويعكس وعيا مزيفا لدى قسم آخر من بسطاء الناس.
وزاد من هذا الحضور الفلسطيني المكثف في الوجدان الجماهيري، استضافة تونس لمنظمة التحرير أوائل ثمانينات القرن الماضي، وأحداث دراماتيكية كالقصف الإسرائيلي لحمام الشط منتصف الثمانينات واغتيال قادة من المنظمة، بالإضافة إلى انخراط شبان تونسيين في المقاومة الفلسطينية التي كانت معسكرات تدريبها في لبنان وسوريا.
الآن، وعلى ضوء المستجدات في غزة والقدس، لا صوت يعلو فوق صوت “المعركة” التي انتقلت في أذهان التونسيين، من صراعات هامشية متفرقة مع الواقع المعيشي، وتركزت في صراع وجودي تختصره القضية الفلسطينية.
هذا المنحى السيكولوجي المتأزم لدى الشخصية التونسية، لا يمكن له أن يجترح حلولا واقعية لأزمات داخلية ومن ثم النظر إلى القضايا الخارجية بعين موضوعية، وإنما زاد في التصعيد والتأجيج و”المقاومة” عبر التهليل لانتصارات متخيلة، رغم حصول اختراقات نوعية على الصعيد الميداني والواقعي.
◙ أهالي الشمال الأفريقي تعاطفوا عموما مع القضية الفلسطينية قديم قدم طابعها الإسلامي في نظر أجدادهم الذين هب الكثير منهم لنجدتها عام النكبة، على الرغم من أن أراضيهم كانت محتلة من قبل المستعمر الفرنسي
وكأني بالجماهير – أي جماهير – لا تريد في قرارة نفسها حلا موضوعيا لقضاياها ساعة تأزّم الأمور، وإنما المضي في نفخ السعير والدفع بالأشياء نحو أقصاها عملا بالآية الكريمة “إن بعد العسر يسرا”.
إنها “سيكولوجيا الإنسان المقهور” بحسب المفكر العربي مصطفى حجازي، وكيف يمسي المغلوب على أمره عدائيا في تصرفاته مستخفا بالعقل وحلوله بعد السنوات الطويلة من الكبت.
لا حديث في مساجد تونس ومقاهيها وخماراتها وقنواتها التلفزيونية والإذاعية، وحتى مخادعها الزوجية إلا عن مستجدات القدس والضفة والقطاع وجنوب لبنان، والتنديد بأي موقف يغلّب استعمال العقل، مقابل الإشادة بأي حالة مناصرة لهذه “المغامرة النضالية” غير محمودة العواقب.
أصوات ثقافية في تونس واكبت الموجة الحماسية العارمة وبحثت عما يبررها كالباحث والمفكر محمد محجوب الذي قال: لا أعتقد أن الشعب الفلسطيني يقبل لعب أي “دور” في الحرب الدائرة ما عدا خوض معركة تحرير حقيقية حتى لو كانت خاسرة.. وعلى المثقفين اليوم مناصرة الحق ومناصرة الإنسانية لا القبول بلعبة “رؤية الشيطان” في العقل المقاوم.
وخرجت من الخزائن والأدراج القديمة الأغاني الثورية ذات الدور التعبوي التحفيزي، لتصدح بدل موجة “الفن للفن” التي ازدهرت في السنوات الماضية، لكنها سرعان ما أفسحت المجال لمقولة “كل شيء للقضية”.
جبهة المقاومة العقلانية لكل أساليب القمع والاضطهاد لا تزال ضعيفة ويلزمها رص للصفوف المتهاوية نحو العواطف العاصفة.
وأمام هذا الواقع الذي يرخي بظلاله على كل شيء، يطرح سؤال بمنتهى الحيرة والحرقة: هل منح المد العروبي والإسلامي المسألة الفلسطينية بعدا كونيا أم أضر بها وجعلت بعض الغوغائيات العالم يسد آذانه عنها، يتجاهلها ويصنفها في خانة الإرهاب؟