تونس وقد خمدت فيها الحرائق الحزبية والنقابية

الكرة في ملعب الحكومة إذن فها هو المواطن يريحها من الانصياع نحو التجاذبات الحزبية والمزايدات النقابية التي تهدم أكثر من أن تبني. فما عسى أن تقدمه الحكومة بالمقابل؟ الجواب هو المضي قدما.
الجمعة 2023/07/28
ما تحتاجه البلاد اليوم هو سياسة إجرائية عاجلة

حرائق طبيعية وأخرى مفتعلة.. إنها نيران متوقعة على كل حال، تستهدف الخارطة الغابية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتونس التي لن تكتفي حكومتها بلعب دور الإطفائي وحده بل بدور من يعيد زرع الأمل وإنعاش الأجواء و”استمطار” الحلول على جميع مستوياتها.

مهمة جبّارة بالتأكيد، يخوضها الرئيس التونسي قيس سعيد، وكل الرياح ليست في صالحه ما عدا ثقة مناصريه ومؤيديه، سواء كانوا من بسطاء الناس أو نخبهم الثقافية التي ـ والحقيقة ـ التفّت حول مشروعه الإصلاحي هذه المرة، كما لم تفعل من قبل.

تبدو هذه بارقة الأمل الوحيدة وسط أجواء مدلهمّة وبالغة التعقيد على الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية، مما يجعل القيادة السياسية في تونس تحارب على أكثر من جبهة، وليس هناك من عامل موضوعي يسير لصالحها، حتى وإن كان يتعلق بالطبيعة التي تشهد احتباسا حراريا غير مسبوق وجفافا يهدد بالعطش.

◙ المواطن التونسي أدرك وبالبرهان والتجربة أن لا الحزبي ولا النقابي ولا الحقوقي سوف يقدم له الحلول الناجعة، لذلك انفضوا من حول هؤلاء مرة واحدة وإلى الأبد

ومع ذلك، نجحت تونس في اقتلاع مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي وهي ماضية في تسوية وضعها مع صندوق النقد الدولي، مما سوف يمكنها من حل جزء هام من مشاكلها المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي وتنظيم الهجرة، بعد خوض مفاوضات عسيرة مليئة بالعصي التي وضعت في العجلات من خصوم الداخل والخارج.

لا خيار للدولة التونسية الآن سوى أن يشمّر أبناؤها على سواعدهم غير آبهين لما يقال، فلقد ولت مرحلة الثرثرة الكلامية والمماحكات الحزبية والمزايدات النقابية بعد أن تركت خلفها إرثا ثقيلا.

جرّب التونسيون أكذوبة “الحقوقيات” في العشرية السوداء التي قادتها جماعة من الفاسدين ومصاصي الدماء من الذين أفرغوا خزينة الدولة عبر منح التعويضات الوهمية الباطلة، وتوظيف جيوش من المنتفعين بغير وجه حق، مما أصاب الموازنة العامة بالعجز التام.

جربوا هذه الجرائم التي ارتكبت في حق مستقبل البلاد باسم “حقوق الإنسان وإعادة الاعتبار لمن تعرضوا للظلم” فكانت النتيجة كارثية، واستدعت تدخلا سريعا من رئاسة الجمهورية يوم 25 يوليو 2021 ثم هم يأتون اليوم، للتباكي على ضياع الديمقراطية وحقوق الإنسان تحت يافطة “جبهة الإنقاذ الوطني”. 

أيد التونسيون في غالبيتهم، ما أقدم عليه قيس سعيد، وساندوا كل الإجراءات التي اتخذها من ذلك حملة التوقيفات التي طالت المتورطين، لا بل عاتبوه على بطء تلك الإجراءات، لا تزلفا، ولا طمعا في المصالح ولا خوفا من بطش القمع، وإنما رأوا في ذلك ما كان يجب أن يكون، ومنذ بداية سيطرة الفاسدين على البرلمان والحكومة.. من يمثل “جبهة إنقاذ” هم أم قيس سعيد؟

ما تحتاجه البلاد اليوم، هو سياسة إجرائية عاجلة، حاسمة وغير مترددة أو متورطة في الكلام والتنظير وبيع الوعود.

راقبت شخصيا، وبأمّ عيني، أولئك الناس البسطاء الذين سارعوا إلى تحية الرئيس سعيد، وتأييده أثناء تجواله التلقائي في شارع بورقيبة المكتظ شاكين له مشاغلهم.

أنصتُ إليهم وهم يتبادلون معه عبارات المودة ثم وبعد ساعة، التقيت مصادفة بأحدهم في المقهى وهو ينظر ممتعضا إلى “أحد الحقوقيين” من “جبهة الإنقاذ” وهو يزمجر ويتحدث إلى قناة تلفزيونية عن “حملات تشويه وتخوين تصدر من أعلى هرم في السلطة ضد المعارضين والناشطين السياسيين والمدنيين” معبّرا عن “عدم تجاوب السلطة السياسية مع عمل المجتمع المدني والأحزاب السياسية وكل ما تقدمه وتقترحه”.

◙ لا خيار للدولة التونسية الآن سوى أن يشمّر أبناؤها على سواعدهم غير آبهين لما يقال، فلقد ولت مرحلة الثرثرة الكلامية والمماحكات الحزبية والمزايدات النقابية بعد أن تركت خلفها إرثا ثقيلا

نعم، حدث ذلك على بعد خطوات من تجمع معارض للرئيس سعيد، فأين “قمع الحريات” الذي يتحدثون عنه.

ليس الأمر تبرئة تامة لأجهزة الدولة لبعض التجاوزات التي تحدث هنا وهناك، لكن الأولويات اليوم صارت تتعلق بالمقاربات والمعالجات التي على الحكومة تقديمها فمشكلة تونس ليست حقوقية كما تحاول بعض الجهات إقناع التونسيين وهم يواجهون مشكلاتهم المعيشية في وقت تتواتر فيه سنوات الجفاف وشح المياه وتتفاقم فيه الأزمات.

الحقيقة أن المواطن التونسي أدرك وبالبرهان والتجربة أن لا الحزبي ولا النقابي ولا الحقوقي سوف يقدم له الحلول الناجعة، لذلك انفضوا من حول هؤلاء مرة واحدة وإلى الأبد.

الكرة في ملعب الحكومة إذن، فها هو المواطن يريحها من الانصياع نحو التجاذبات الحزبية والمزايدات النقابية التي تهدم أكثر من أن تبني، فما عسى أن تقدمه الحكومة بالمقابل؟ الجواب هو المضي قدما نحو تقديم العلاجات وهي المتسلحة بالكفاءات والأيادي النظيفة وغير المرتعشة.

صحيح أن المهمة شاقة، لكنها في المتناول، ويلزمها تفهّم ومساندة من طرف المواطن ضمن حالة تعاون لا غنى عنها عملا بالمثل التونسي القائل “شوية من الحنّاء، وشوية من رطابة اليدين”.

8