تونس وسوريا: سقوط محاذير السياسة ولكن...

ما بين تونس ودمشق، حسابات وإكراهات، حالت وتحول دون استئناف العلاقات الثنائية، أما الحسابات فهي مرتبطة بالمشهد العربي وهو في طريقه إلى التسوية، أما الإكراهات فهي وثيقة بالوزن الإسلاموي.
السبت 2018/12/29
معظم العواصم العربية تختار الانحياز لصالح دمشق

لا يمكن فصل تفاصيل هبوط أول طائرة سورية منذ 8 سنوات على الأقلّ، على مطار مدني تونسي (المنستير الدولي)، عن مشهديّة إقليمية كبرى قوامها العودة التدريجية للدفء في جسم العلاقات العربية السورية، وإمكانية استعادة دمشق لموقعها ودورها ضمن الجامعة العربية وصلب مجالها الجغراسياسي المعهود والمعروف.

في ذات اليوم الذي لامست فيه الطائرة السورية أرض مطار المنستير الدولي، كانت دولة الإمارات العربية تستأنف عملها الدبلوماسي في دمشق وتعيد فتح سفارتها هناك، فيما أكدت البحرين استمرار عمل سفارتها في دمشق.

تونس التي كثيرا ما ارتبط خطاب عودة علاقاتها مع دمشق بتلازمية شرطيّة بمراجعة الجامعة العربية لقرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة، يبدو أنّها ليست بعيدة اليوم عن مناخ استئناف العلاقات العربية مع سوريا، فهبوط طائرة سورية على الأرض التونسية يحتاج إلى قرار سيادي سياسي من أعلى هرم السلطة يتجاوز بمقتضى الضرورة والواقع الإجراءات التسييرية لحركة النقل الجوي.

وكما أنّ رفض الترويكا لإيفاد ناقلة تونسية إلى مطار دمشق الدولي في 2013 لإعادة التونسيين المحتجزين في سوريا، بدعوى أنّ هبوط الطائرة التونسية في دمشق يكتنف اعترافا بشرعية النظام، فإنّ نزول الطائرة السورية في مطار المنستير واستئناف النقل الجوي على خطّ تونس دمشق، يحملان في طياتهما أبعادا سياسية جدّ عميقة.

تختبر الدبلوماسية التونسية مدى رسوخ الأرض التي تتطلبها خطوة إعادة العلاقات التونسية السوريّة، فالفيتوات التي رُفعت ضدّ إعلان وزير الخارجية الأسبق الطيب البكوش استئناف العلاقات مع سوريا في أبريل 2015، أبانت للفاعل الدبلوماسي التونسي عن تعقيدات الملف وتشابكه الإقليمية والدوليّة.

صحيح أنّ الواقع الاستراتيجي والإقليمي تغيّر اليوم، وأنّ الكثير من الفيتوات انسحبت من المشهد، على وقع التغييرات الكبرى في موازين القوى، وصحيح أيضا أنّ الخطوة الإماراتية والبحرينية وقبلها السودانية تعبّر عن توجّه لا تعارضه السعودية في الحدّ الأدنى منه، إلا أنّ الصحيح في المقابل أنّ الدبلوماسية التونسية محكومة دائما بمنطق “التوفيق” بين المحاور الكبرى الإقليمية والدولية وحسابات التوافق بين أجنحة الحكم، وبالتالي فإنها ستزن خطواتها بميزان الذهب في هذا الملفّ.

يستمدّ موسم الهجرة العربية إلى دمشق، الجانب الأكبر من مشروعيته من الانسحاب الأميركي المفاجئ الذي سيترك فضاء واسعا في الشرق السوري للتدخّل التركي والإيراني، دون نسيان حالة الموت السريري التي باتت عليها الفصائل السورية المسلحة.

ولأنّ الساحة الكردية السورية مرشحة للكثير من التصعيد العسكري على أكثر من جهة وجبهة، فمن الواضح أنّ معظم العواصم العربية اختارت الانحياز لصالح دمشق في هذه المكاسرة العسكرية على حساب الموجة التوسعية التركية لتوليد “اتفاق لوزان” جديد على حساب الشمال السوري، إلى حين الوصول إلى اتفاق سلام نهائي في سوريا يُخرج كافة القوات الأجنبية وعلى رأسها القوات الإيرانية وحزب الله من أرض الشام.

هكذا نستطيع قراءة بيان الخارجية الإماراتية الذي توقف مطوّلا عند عبارة “سيادة سوريا ووحدة أراضيها”، وهكذا أيضا بالإمكان استقراء أسباب زيارة مدير المخابرات السورية علي مملوك إلى القاهرة بحر الأسبوع الجاري.

في خضم هذا المشهد، تقف تونس عند مفترق الطرق الإقليمية والدولية، فلا هي تبتغي التأخّر عن ركاب قطار العودة إلى دمشق، ولا هي تريد استثارة الحلف التركي القطري الذي يقف على طرف النقيض من التحركات الحاصلة، ولا هي أيضا تحبّذ حالة “الحضور بالغياب” في مؤتمرات إعادة الإعمار التي قد تدر على الخزينة الوطنية عائدات مالية مهمة هي في أمس الحاجة إليها، ولا هي بمقدورها استباق العواصم الإقليمية والدولية الكبرى في القرار فيـأتيها الغضب العربي والغربي مترجما على شكل إنذارات ورسائل ضمنية واحتجاجات جمعياتية.

وفي الوقت الذي تحزم فيه عواصم كبرى خياراتها لصالح دمشق، تخطو تونس “أنصاف خطوات” تجاه دمشق، فالتمثيل الدبلوماسي في دمشق مقتصر فقط على الجانب القنصلي، وقرار استئناف العلاقات رحلته الخارجية التونسية إلى الأمانة العامة للجامعة العربية، لتبقي على حالة “نصف الاعتراف” التي تلخص رمادية كافة مواقفها من المشهدية السورية.

ما بين تونس ودمشق، حسابات وإكراهات، حالت وتحول دون استئناف العلاقات الثنائية، أما الحسابات فهي مرتبطة بالمشهد العربي وهو في طريقه إلى التسوية، أما الإكراهات فهي جدّ وثيقة بالوزن الإسلاموي مجسدا في حركة النهضة والتي لا تزال إلى يوم الناس بحكم تقاطعاتها مع الدوحة وأنقرة تعارض أي انفتاح نسبي حيال سوريا.

9