تونس في قلب عاصفة "صفقة القرن"

الزيارة التي أداها وفد عن النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي برئاسة أحمد الطيبي إلى تونس والتي انتهت الثلاثاء بلقاء مع رئيس مجلس النواب محمد الناصر، تندرج في إطار حشد الموقف العربي ضد الخطوات الإسرائيلية الخطيرة، وإيجاد التقاطعات العربية والغربية اللازمة لرفض القرارات الأميركية الإسرائيلية في حق القدس وفلسطينيي الخط الأخضر.
وخلال لقائه بالرئيس الباجي قائد السبسي وبرئيس مجلس النواب محمد الناصر، دق الطيبي ناقوس خطر التهويد والأسرلة والإبادة الناعمة لفلسطينيي الداخل، والاغتيال الرسمي لحق عودة اللاجئين بمقتضى القانون الجديد الذي اعتمده الكنيست الإسرائيلي والذي عرّف إسرائيل كدولة قومية لليهود.
وعلى الرغم من خطورة القانون، إلا أن ردة الفعل العربية والإسلامية كانت أقل بكثير من قانون إعلان الحرب على الوجود الفلسطيني المعتمد من طرف تل أبيب.
ذلك أنّ القانون، يُقوّض من الأساس حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ويحوّل فلسطينيي الداخل إلى فائض بشري خارج إطار القانون والكيان، وبالتالي فهم رهائن تسوية قادمة قد تأتي باسم صفقة القرن لاستبدال فلسطيني 1948 بالمستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
الأدهى من ذلك أنّ القانون يأتي كحلقة متكاملة من حلقات ترويكا التعصّب الديني والقومي والاستيطاني في إسرائيل، وترويكا الصهينة اليهودية المسيحية، والتيار الشعبوي ومعاداة المهاجرين واللاجئين في البيت الأبيض، وعندما يلتقي بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت ليفنت في تل أبيب، مع دونالد ترامب وديفيد فريديمان وجاريد كوشنر في واشنطن، فلا يمكن أن تكون النتيجة إلا تقنين العنصرية وضرب الوجود الفلسطيني في الصميم.
وما لم يستفق الفلسطينيون أولا، والعرب ثانيا على كارثية الأوضاع القائمة والقادمة، فإنّ الأنظمة العربية هي التي ستدفع فاتورة التهويد والأسرلة على شكل توطين للفلسطينيين في دول الطوق، ولا نظن أن هناك دولة عربية واحدة قادرة على تحمّل الإشكاليات الديموغرافية والسياسية والأنثروبولوجية لقرار توطين اللاجئين.
غير أن زيارة أحمد الطيبي والوفد المرافق له تحمل في طياتها أبعادا أعمق وأشمل من الجوانب المعروفة في الصراع العربي الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية.
فالمستشار السابق للزعيم ياسر عرفات وعقله الاستراتيجي في أكثر من ملف شائك، جاء محذرا ومنبها لخطورة ما يطبخ في الكنيست الإسرائيلي من قوانين قادمة بدأت من قانون تعريف إسرائيل كدولة قومية لكافة اليهود، ولن تنتهي المسيرة القانونية السمجة عند مطالبة العديد من الدول العربية والإسلامية بتعويض مادي ومعنوي مجز لليهود الذين هربوا من “الانتهاكات” الحاصلة ضدهم، وهاجروا إلى إسرائيل إبان الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
سبق لبنيامين نتنياهو أن طالب عشر دول عربية، من بينها تونس، بتعويضات مادية تقدر بـ300 مليار دولار لفائدة اليهود الذين هُجّروا من ديارهم، وفق المزاعم الإسرائيلية، وقد تمكنت حكومته السابقة من إدراج ملف “اللاجئين اليهود” ضمن مطالب تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد إقناع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بصحة الرواية الإسرائيلية.
ولئن عمد القانون الجديد إلى تعريف إسرائيل بأنها الدولة القومية لكافة اليهود في العالم، سواء الذين قبلوا بوجودها أو المعارضين لها، سواء الذين يحملون جنسيتها أو الذين يرفضونها، وسواء الذين “يدينون باليهودية ويعارضون الصهيونية” أو الذين “يتمظهرون باليهودية ويوالون الصهيونية”، فإنّه بهذا الشكل يكون تكملة منطقية لنص وثيقة الأمن القومي الإسرائيلي، التي عرفت اللاجئين اليهود على أنهم اليهود الذين تركوا العالم العربي بين نوفمبر 1947 وحتى عام 1968، وقدّرتهم بنحو 850 ألف يهودي من 10 دول عربية تقف تونس على رأسها.
هنا تكمن قيمة زيارة الطيبي إلى تونس، فالرجل قليل الحركة خارج الخط الأخضر، وعليه قيود إدارية وإجرائية كثيرة، ومنذ أن رحل الزعيم أبوعمار صارت علاقته مع منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة ورئيسها محمود عباس، علاقة فاترة يحكمها منطق مناقبية الرجل وعمله المضني مع أبوعمّار.
ولن نجانب الصواب إن قلنا إن النائب العربي جاء برسالة استحثاث لإيقاظ الوعي والإدراك بخطورة ما يطبخ لتونس ولعدد من الدول الرافضة بصوت عال لقرارات تهويد القدس وجعلها عاصمة موحدة لإسرائيل وذبح حق العودة من الوريد إلى الوريد.
هكذا تتمظهر الفصول الكبرى لما تسمّى بصفقة القرن، واللافت في ترامب أنه يكرس الواقع المراد ومن ثمة يسميه ويفرض الأمر المبتغى من إرادته قبل أن يعطيه الأوصاف الهوليوودية.
فلئن كانت مقاربة ترامب تقوم على تسوية فلسطينية إسرائيلية تقضي باستبدال “فلسطيني الخط الأخضر” بمستوطني “الضفة الغربية”، وتعويض القدس الشرقية بأبوديس، وإبدال الجغرافيا الكبرى للضفة الغربية بصحراء النقب، فإن التفكير الأميركي الإسرائيلي الحالي يصب في مقايضة حق العودة الفلسطيني بحق اللاجئين اليهود.
لن ننخرط في جدل تاريخي قانوني حول مفهوم اللجوء، ولكن من الواجب الحذر مما يطبخ لدى صانعي القرار في البيت الأبيض وتل أبيب، والتعامل مع المطالب الأميركية الإسرائيلية بالكثير من الجدّية والتمسّك بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.
تريد إدارة ترامب ومعها إدارة نتنياهو حسم القضية الفلسطينية بمنطق التسوية والإنهاء السريع وفرض الأمر الواقع، والخطير في القضية أنّ واشنطن وتل أبيب تريدان من العرب إنهاء قضية حق اللاجئين بأياديهم، وفرض تسويات مهينة على السلطة الفلسطينية ولمَ لا الدخول في تباينات فلسطينية عربية عميقة قد تنتهي بهوّة سحيقة بين الإخوة.
القضية في غاية الخطورة وتقتضي من العرب انتهاج مقاربات استباق الإشكال ومعالجته قبل التفاقم، بدل اللحاق المتأخر بقطار الأزمة وبتداعياتها الخطيرة.