تونس: فقدان الثقة في التعليم يفاقم أزمة التعليم

“تقرأ وإلا ما تقراش، المستقبل ما ثماش” أي “لا مستقبل لك في الأفق سواء تعلمت أم لم تتعلّم”: جملة على شكل أهزوجة يرددها تلاميذ المرحلة الابتدائية في المدارس التونسية أواخر العام الدراسي، احتفاء بالعطلة الصيفية وابتهاجا بانتهاء الدروس، التي لا طائل منها، في نظرهم.
هذه الجملة التي دأب على ترديدها تلاميذ المدارس الحكومية في تونس على سبيل الشغب والمشاكسة، بدت لي اليوم، موحشة وموغلة في الواقعية المغمسة بالتشاؤم والنظرة السوداوية للقطاع الذي راهنت عليه دولة الاستقلال منذ نشأتها عام 1956.
وسرعان ما نفذت الحكومة آنذاك، خطة تعليمية، حيث تم النظر إلى التعليم بصفته استثمارا وطنيا ومحددا أساسيا من محددات النمو الاقتصادي التونسي، إذ تم فيما بعد إنشاء هيئة تعليم وطنية لتقديم التوجيهات والتوصيات التي وافقت عليها الحكومة وأدمجتها بخطط التنمية الوطنية.
وبالفعل، أنفقت الدولة ما يقارب الخمس من ميزانيتها على التعليم الذي أثمر كوادر وطنية تكفلت بعبء إدارة شؤون البلاد وتقديم الإصلاحات والمقترحات بما يتوافق مع رؤية الزعيم الحبيب بورقيبة للدولة الحديثة.
◙ التونسيون يحتاجون اليوم إلى تصحيح علاقتهم بالتعليم، وهي علاقة بنيت على الاتكالية والفهم الخاطئ للتعلم وكسب الخبرات والمهارات
وكان التعليم بمثابة قارب النجاة من الفقر وتبعاته بالنسبة للفرد والمجتمع، وذلك لما يوفره من وظائف تضمن العيش الكريم الذي يسميه كل تونسي بـ“المستقبل”.
هذا “المستقبل” صار يشكك في وجوده الآن، بفعل جملة إخفاقات لمسيرة عمل بدأت بالمراهنة على التعليم كمنقذ للمواطن من براثن الفقر والمرض والخصاصة وغيرها من الأمراض الاجتماعية، إلى أن انتهى سببا لكل هذه المشاكل والمنغصات.
كيف أصبح للتعليم في تونس دور يناقض المهمات التي جاء من أجلها؟ هذه هي المعضلة التي تعاني منها البلاد اليوم.
الحقيقة أن ما رافق التعليم من مشاكل ليس بسبب التعليم في حد ذاته بل في ضياع البوصلة وترهل الوسائل البيداغوجية، بالإضافة إلى غياب الخطط الناجعة وانتفاء الدراسات الإستراتيجية والسوسيولوجية التي تبحث في الجدوى وحركة العرض والطلب وحاجة الدولة إلى هذا الكم الهائل من المتخرجين كل عام دون وجود وظائف تحتضنهم.
تزايد عدد الخريجين لم يكن مصحوبا بتحسن مواز في جودة التعلم الذي انحدر مستواه بدرجة كبيرة، بحسب المقاييس الدولية لجودة التعليم وأعرب التونسيون عن إحساسهم بالإحباط من المنظومة التعليمية كما تُظهر بيانات الباروميتر العربي التي تشير إلى أن مستوى رضا التونسيين عن مؤسساتهم التعليمية في أعلى درجة من التدني.
الأسباب كثيرة ومتداخلة، منها ما يتعلق بالتقصير في الكادر التعليمي الذي يخضع بدوره لظروف أملتها الحالة المعيشية العامة، ومنها ما يتعلق بطبيعة وسيكولوجية الإنسان التونسي الذي يرى في التعليم الوسيلة الوحيدة والمثلى للوصول إلى وظيفة والالتحاق بسوق العمل، وليس غاية في ذاته تتعلق بكسب المعرفة والمهارات.
التعليم بالنسبة للتونسيين يعني الوظيفة العمومية المضمونة في مؤسسات الدولة التي تعاني جملة أعباء خانقة من النفقات جعلتها تستدين من قوى أجنبية وصناديق مانحة كي تتكفل بتسديد الرواتب لجيوش من الموظفين العاطلين، عمليا عن العمل، لا بل أصبحت الدولة تستدين لتسديد أقساط ديونها.
◙ الدولة أنفقت ما يقارب الخمس من ميزانيتها على التعليم الذي أثمر كوادر وطنية تكفلت بعبء إدارة شؤون البلاد وتقديم الإصلاحات والمقترحات بما يتوافق مع رؤية الزعيم الحبيب بورقيبة للدولة الحديثة
هذه الوضعية الخانقة تسببت في حصولها سياسات خاطئة لحكومات سابقة كانت تنخرها المحسوبية والفساد، بالإضافة إلى غياب دراسة تتعلق بالجدوى الاقتصادية من هذا القطاع التعليمي أو ذاك.
التونسيون يحتاجون اليوم إلى تصحيح علاقتهم بالتعليم، وهي علاقة بنيت على الاتكالية والفهم الخاطئ للتعلم وكسب الخبرات والمهارات.
ومن جهة ثانية، فإن الدولة معنية بإصلاح منظومة التعليم والاستفادة من خبرات أجنبية متقدمة تقوم على التطوير والتحديث والاستفادة من الثورة الرقمية بدل الاكتفاء بأساليب قديمة ومترهلة لم تعد تلبي حاجات العصر.
وإذا ما استعيدت الثقة بالتعليم كجملة قيم وحاجيات فإن نصف الطريق إلى الإصلاح قد قطعت، أما النصف الثاني فيتمثل في تبني الأساليب الحديثة المتناغمة مع متطلبات المجتمع وسوق الشغل، مع ضرورة عدم ربط التعليم بالوظيفة الحكومية المضمونة بوصفها الطريقة الوحيدة للقضاء على غول البطالة الذي ما انفك يتهدد البلاد فتحاول بعض الجهات الحكومية مجابهته بالمزيد من خريجي تخصصات تعليمية مهترئة، وتقع بذلك فيما يشبه الدائرة الشريرة.
لا بد من الإقرار بأن فقدان ثقة التونسيين في بالمنظومة التعليمية هو الذي زاد من تراجع هذا القطاع فتقاعس الطلاب والمدرسون والمشرفون على حد سواء، ذلك أن عدم ربط التعليم بسوق الشغل هو الذي جعل الأزمة تتفاقم يوما بعد يوم.