تونس: حكومة أقليّة ومعارضة أكثرية

لا شيء يؤشر في تونس إلى إمكانية مراجعة التيار الديمقراطي وحركة الشعب، لموقفهما الرافض للمشاركة في حكومة الحبيب الجملي.
فرغم ماراثون المشاورات بين الحزبين الذين تجمّعا في البرلمان تحت عنوان الكتلة الديمقراطية، وبين قيادة حركة النهضة من جهة ورئيس الحكومة المكلّف الحبيب الجملي من جهة ثانية، إلا أن منسوب الثقة المنعدم بين الأطراف حوّل منظومة المشاورات من مفاوضات بغرض المساهمة في تشكيل الحكومة، إلى تبرئة للذمة الانتخابية والسياسية حيال القواعد والرأي العام، وبالتالي تسجيل النقاط في مرمى الطرف المقابل.
الواضح أن قرار التيار الديمقراطي وحركة الشعب بالتموقع في المعارضة البرلمانية والسياسية كان قرارا استراتيجيا اُتخذ منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية، لا فقط لأنّ كافة تجارب الحُكم مع حركة النهضة أفضت إلى مأسسة الانهيار والتفتت في الأحزاب المتحالفة معها، ولكن أيضا لأن الراهن الاقتصادي والاجتماعي يجعل من مجرّد الاقتراب من رئاسة الحكومة ومن الحقائب الوزارية، مقاصل سياسية وإعلامية تُدفع فواتيرها الانتخابية الباهظة عاجلا أو آجلا.
هذا بالإضافة إلى قناعة بأنّ استثمار الزخم السياسي والانتخابي للحزبين والذي عبّرت عنه الانتخابات الأخيرة، لا يكون إلا من خلال فرضيتين اثنتين. الأولى كامنة في الدخول في منظومة الحُكم والحكومة من خلال شروطهما، وأما الثانية فالمزيد من الاستثمار في الخطاب النّقدي العميق وطرح بدائل معقولة لأداء الحكومات القائمة والقادمة.
وفي المقابل يبدو أنّ حركة النهضة لم تكن تحبّذ التحالف مع التيار الديمقراطي وحركة الشعب، لعدة اعتبارات، أهمّها أنّ التقارب معهما سيفضي إلى استدرار خطاب الثورة؛ وهو خطاب استثمرت فيه النهضة انتخابيا ولكنها غير مستعدة لتحويله إلى مشروع حُكم خلال الولاية القادمة. كما أنّ الابتعاد عن الأحزاب الوسطية (لاسيما الدستورية منها) سيثير الخطّ الإصلاحي داخلها وهو بالفعل ما بدأت تباشيره في الظهور عبر استقالة زياد العذاري من كافة المناصب القيادية في الحركة.
الملامح الأولى لحكومة الجملي تشير إلى أنها حكومة أقلية جوهرها التقارب بين النهضة وقلب تونس، وأجنحتها لن تتجاوز تخوم كتلة الإصلاح الوطني وبعض المستقلين من المؤلفة أصواتهم للنهضة. وبعبارة أدق فإن الحكومة القادمة لن تحظى بحزام سياسي حقيقي قادر على تأمين برامجها في البرلمان وتجسيد رؤاها التشريعية ودعم مشاريعها التنفيذية، وإن حظيت بالنصاب التشريعي.
ذلك أنّ بدعة التصويت للمصادقة على الحكومة، قصد مُعارضتها لاحقا، تبقى استثناء تونسيا لا بدّ من تضمينه صلب مصفوفة الاستثناءات التونسية.
ستكون تونس حيال حكومة أقليات تنال الثقة البرلمانية بمنطق الحزمة التصويتية، وليس الحزام السياسي، وسيتجاوز نصابُها النصف بأصوات قليلة، في حين أنّ المُعارضة البرلمانية ستكون قريبة من النصف إلا قليلا، ومتفرعة على أكثر من مشرب فكري وأيديولوجي.
وهو مشهد لافت ما كان ليكون على هذه الشاكلة من المفارقة السياسية، لولا تفشي فوبيا الحكم مع النهضة، وفوبيا إعادة الانتخابات، ومتلازمة استمراء كرسيّ المعارضة.
فغالبية الأحزاب السياسية لا تريد إعادة الانتخابات البرلمانية- لاسيما وأن معظمها جاءت ببقايا الأصوات- وفي نفس الوقت أقلية منها فقط تريد المشاركة في الحكومة، وأقلية من الأقلية تقبل بالمشاركة وفق شروط النهضة، فيما تستميت الأكثرية في حقّها في كرسي المعارضة الذي بات أكثر سحرا وجذبا من كرسي الحُكم.
الصعوبات التي يواجهها الحبيب الجملي بدأت قبل تشكيل حكومته، فمساعيه لتوسيع المفاوضات والتراكم على التقاطعات السياسية والاقتصادية بين الأحزاب ارتطمت بإكراهات الواقع الحزبي في تونس، وبفيتوات حركة النهضة وما أكثرها.
والرجل الذي لعب على ورقة الاستقلالية التنظيمية عن كافة الأحزاب، لم تسعفه هذه الورقة عند الحديث عن البرامج الاقتصادية والمشاريع التنموية ومحاربة الفساد، وهي ملفات يبدو أنها لم تنل الحيز الأكبر من اهتماماته، ما جعل الكثير من ضيوفه يخرجون من عنده بانطباع سلبي.
والأكثر من كل ذلك أن الحزام السياسي الذي عمل عليه على مدى أسابيع، لتأمين حكومته القادمة سرعان ما انفرط عقده، لتصير عدّة وعتاد المعارضة البرلمانية تُقارب الغالبية.
في خضم هذا المشهد، وعلى عكس ما يعتقده البعض من خشية النهضة من تداعيات الاستعصاء البرلماني، تستثمر الأخيرة من خراج تدافع الأحزاب عليها وضدّها.
فخطاب تحالف الضرورة والإكراهات ينسجم اليوم مع التقارب مع قلب تونس، والتعايش مع قلب تونس مقابل إبعاد ائتلاف الكرامة يتلاءم مع سياسة شعرة معاوية بينها وبين المنظمات الاجتماعية، وبينها وبين الكثير من العواصم الإقليمية والدولية المؤثرة.
والأهمّ من كل ما سبق، أنها ضمنت معارضة قوية فيما بينها، فالمعارضة الثورية لكتلة الحزب الدستوري الحر ستُحجّم من هامش تحركها، لاسيما وأنها باتت صوتا قويا لا فقط ضدّ النهضة بل ضدّ المنظومة السياسية التي أفرزتها 14 يناير 2011 برمتها.
ولكن هل تونس في حاجة إلى غالبية أقلياتية وإلى معارضة قريبة من الأكثرية، وهل هي في حاجة إلى هذه الثنائية الضدية التي صارت تؤرق التونسيين وتضيع من وقتهم ومن قوتهم الكثير؟
البلاد في حاجة إلى كتلة صماء تضع الأولويات الاقتصادية والاجتماعية على طاولة الفعل والإنجاز، وتؤخّر كلّ السرديات والثنائيات المقيتة، ذلك أنّ الجميع في مركب واحد وأمواج البحر المتلاطمة لن تفرّق بين من هم أسفل السفينة ومن هم فوقها.