تونس تقوم للمعلم وتوفيه التبجيل

اليوم وقد جنحت المطالب النقابية لرجال التعليم نحو الاستقواء ولي الأذرع على حساب التلاميذ وأوليائهم الذين يعانون الأمرّين لا يسعنا سوى أن نقول لنقابات التعليم وبعض قياداتها من المزايدين: كفاية.
الخميس 2023/09/14
يد الحكومة قصيرة.. فليتق الله المزايدون

التونسيون يحبون الأرقام إلى حد الهوس، حتى وإن لم يدققوا فيها أو يتعظوا منها.

وهذه أرقام طازجة قادمة لتوها من “باب بنات”، مقر وزارة التربية التونسية: توظيف 1670 معلما للمرحلة الابتدائية من الحاصلين على الإجازة التطبيقية لسنة 2023.

التعاقد مع 793 معلما نائبا منتفعين برواتب شهرية تصل إلى ما يقارب 500 دولار ولمدة 12 شهرا، بالإضافة إلى منحة العودة المدرسية المفعّلة بشكل “رجعي” إلى كل السادة التقدميين وغير التقدميين من النقابيين وغير النقابيين.

وماذا بعد..؟ ها هو وزير التربية محمد علي البوغديري يشرف على الندوة الصحفية الخاصة بالعودة المدرسية بكل ما تضمنته من مشاريع وقرارات وإجراءات تخص حوكمة الشأن التربوي، البنى التحتية، الخدمات المتعلقة والكتاب المدرسي.

◙ البلاد تواجه أزمة مالية حادة، ولسنا في وارد تحميل المسؤوليات، فلقد ضرب من ضرب وهرب من هرب، وإنما نطلب القليل من الحكمة والتبصر، وعدم صب الزيت على النار

أكثر من مليوني تلميذ يستعدون لانطلاق السنة الدراسية الجديدة 2023 ـ 2024 بزيادة نسبة تعادل 3 في المئة موزعة على مؤسسات تربوية تصل إلى 6139 على كافة تراب الجمهورية منذ تأسيسها عام 1957.

ماذا يفيد بعد هذه الأرقام التي لا تعني في جوهرها إلا شيئا واحدا، وهو أن تونس تمضي قدما، نحو المراهنة على التعليم والاستثمار في الطاقات البشرية لأبنائها في عصر لا تنفع فيه الثروات الطبيعية ولا هم يحزنون.

يتذكّر الجيل الذي أنتمي إليه شخصيا، كيف كنا ننتفع بشتى الخدمات المدرسية من وجبات وملابس ومعدات ومبيتات في كل المدن والبلدات وفي أقاصي الأرياف، ومازالت هذه الخدمات مستمرة، وفي نمو متسارع.

وكنا صغارا نعود إلى بيوتنا مبتهجين حين ننقطع عن الدراسة ليوم أو يومين، قائلين لأهالينا حين يسألون: إنه إضراب.. إضراب للمعلمين.

تلك الإضرابات، وعلى الرغم من شطط بعضها، كانت محقة، والأهم من ذلك أنها كانت تعبر عن يقظة المؤسسة النقابية وحرصها على عدم التفريط في حقوق المربّي، لكنها تضمن للتلميذ سنة دراسية سليمة وخالية من أي تقصير.

اليوم، وقد جنحت بعض المطالب النقابية لرجال التعليم نحو الاستقواء ولي الأذرع على حساب التلاميذ وأوليائهم الذين يعانون الأمرّين، لا يسعنا سوى أن نقول لنقابات التعليم وبعض قياداتها من المزايدين: كفاية.

كفى متاجرة باسم الحقوق النقابية وعرضها في سوق المزايدات السياسية والمنافع الفئوية.

◙ جميع التونسيين يعلمون أن إمكانيات بلادهم محدودة، والعالم يشهد أزمات حتى في أكثر البلدان ثراء، فما بالك بهذه الأرض التي أمست جمهورية للطواويس المزايدين

كفى تنكيلا واستهتارا بفلذات أكبادنا، وتعريضها للتهميش والمجازفة بمستقبلها في سبيل المصالح الضيقة والظهور بمظهر البطولة في عصر ما بعد فرحات حشاد، مؤسس الحركة النقابية التونسية وشهيدها في مطلع خمسينات القرن الماضي، أو حتى ليخ فاليسا، في ثمانينات بولونيا الاشتراكية.

كان الأجدر بالاتحاد العام التونسي للشغل أن يحترم تاريخه النضالي ومساهمته في تحرير البلاد من الاستعمار والاستغلال والجهل والأمية، بدل أن تنزلق بعض قياداته نحو المناكفات والمهاترات الحزبية.

كانت صفة “نقابي” في أذهاننا مقدسة، فلا تجعلوها عرضة للتشكيك والتقول يا معشر الذين أخذتهم العزة بالإثم.

وصل الأمر بنقابة التعليم في تونس أن أمرت المدرسين بحجب الأعداد والتقييمات، وأخذ التلاميذ رهينة في سوق المزايدات بينها وبين وزارة التربية.

وبصرف النظر عمن يساند التونسي، الحكومة أم الاتحاد؟ فإن أطفاله ضحية في كلتا الحالتين، بالإضافة إلى الواقع المعيشي الذي يكشر عن أنيابه بصرف النظر عمن هو أقرب إلى الحقيقة والواقع.

◙ وزير التربية محمد علي البوغديري يشرف على الندوة الصحفية الخاصة بالعودة المدرسية بكل ما تضمنته من مشاريع وقرارات وإجراءات تخص حوكمة الشأن التربوي

البلاد تواجه أزمة مالية حادة، ولسنا في وارد تحميل المسؤوليات، فلقد ضرب من ضرب وهرب من هرب، وإنما نطلب القليل من الحكمة والتبصر، وعدم صب الزيت على النار.

يعلم جميع التونسيين أن إمكانيات بلادهم محدودة، والعالم يشهد أزمات حتى في أكثر البلدان ثراء، فما بالك بهذه الأرض التي أمست جمهورية للطواويس المزايدين من معارضة وموالين.

صحيح أن المدرسين هم أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر، لكن عين المواطن بصيرة، ويد الحكومة قصيرة، فليتق الله المزايدون باسم الحقوق النقابية والمصطادون في مياه عكرها كل شيء.. حتى الطقس الذي يقسو.

“أيها العمال أفنوا العمر كّدا واكتسابا، واطلبوا الحق برفق واجعلوا الواجب دابا”، قصيدة أحمد شوقي، التي تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل، بكل ثقله، في سبعينات القرن الماضي لإلغائها من المقررات المدرسية، على اعتبارها تسيء للطبقة العاملة، من يتذكرها الآن؟

هل حرمنا صغارا من قصيدة لأمير الشعراء وشاعر الأمراء أم أن مصالح الطبقة العاملة تقتضي ذلك؟ فليكن، ولكن شوقي قال أيضا “قم للمعلم وفّه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا”.

8