تونس تعزز قوانين الجمارك لوقف نزيف التهريب

تحشد الحكومة التونسية منذ سنوات من جهودها لوضع حدّ لنزيف التهريب والتجارة الموازية التي أصبحت مرضا مزمنا يعمّق أزمات الاقتصاد المحلي، الذي يشكو أصلا من تراجع كبير نتيجة تعثّر برامج الإصلاحات التي طال انتظارها.
تونس - تقر السلطات بأن المضي قدما في بناء الاقتصاد المحلي والتخفيف من العبء الثقيل للتحديات، رهينا إرادة حاسمة في اقتلاع سرطان التهريب من جذوره لضمان أسس اقتصادية على قواعد مستدامة تساهم في إخراج البلاد من أزماتها العميقة.
ونسبت وكالة الأنباء الرسمية إلى وزير المالية رضا شلغوم خلال إشرافه على الاحتفال بالذكرى الـ63 ”لتونسة الديوانة” (الجمارك) قوله، الجمعة، إن ”الحكومة انطلقت في مراجعة النصوص التشريعية والترتيبية، التي تعرقل عمل وحدات الجمارك”.
واعتبر الوزير أن ”هذه المراجعة ستمكّن من مواجهة كل التحديات المتعلقة خاصة بمقاومة التهريب والغش والجريمة المنظّمة للنهوض بالاقتصاد الوطني”.
وتعلم مختلف الأطراف في تونس بأن المرور إلى مرحلة بناء الاقتصاد لا يمكن أن يحدث دون التخلص من مكامن الخلل المتمثّلة في عصابات تهريب السلع التي تسببت في ضرب المنتجات المحلية.
وتشهد الأسواق التونسية حالة إغراق بالسلع المهرّبة التي تجد إقبالا كبيرا من المواطنين، ممّا جعلها تزدهر مقابل تدهور السوق الرسمية.
وأضاف رضا شلغوم أن “الدعم المعنوي والمادي لإطارات وأعوان الجمارك التونسية مهمّ للغاية حتى يتمكّنوا من الاضطلاع بمهامهم على أكمل وجه والارتقاء بالخدمات الموجّهة للمواطن والمؤسسة بما يعزز الاقتصاد المحلي”.
وتابع أن دعم جهاز الجمارك لوجيستيا سوف يساهم في “الحد من التجاوزات وجرائم التهريب والغش والاتجار في المواد الممنوعة، وغيرها”.
واستعرض المدير العام ”للديوانة التونسية” (الجمارك)، يوسف الزواغي، مجالات أداء عمل وحدات الجمارك برا وجوا وبحرا، لاسيما على مستوى تطوير آليات العمل.
ورغم ترسانة القوانين التي وضعتها تونس العام الماضي لمكافحة التهريب والتجارة الموازية يتواصل النزيف، ممّا يستوجب إصلاحات أكثر نجاعة.
ويحمّل خبراء الحكومات المتعاقبة مسؤولية استفحال التهريب والغش نظرا إلى انشغالها بمصالح شخصيات معيّنة مرتبطة بأطراف نافذة على علاقة بشبكات التهريب.
وتمكّنت الجمارك في عدة محطات من إحباط عدد من عمليات التهريب، غير أنها لم تفض إلى نتيجة إيجابية بالنظر إلى امتلاء الأسواق بالسلع المهربة التي لا تجد صعوبة في اقتحام الأسواق التونسية عبر حدودها.
وسبق أن أكدت الحكومة أنها تستهدف التقليص من حجم الاقتصاد الموازي من 50 إلى 20 بالمئة بحلول عام 2020، علاوة على تخصيص موارد مالية كبيرة لمكافحة الجريمة المنظمة.
ويجزم اقتصاديون بأن الحكومة أمام تركة هائلة من المشكلات تتعلق بالتهريب وعليها تحديد خارطة واضحة المعـالم للحد من هـذه الآفة، التي خصصت لها الحكومـة السـابقة في مايو الماضي، نحو 240 مليون دولار لمحاربتها.
وكشفت تحقيقات قضائية في وقت سابق، أن أكثر من 120 شركة تونسية ودولية تورطت في إغراق الأسواق المحلية بالبضائع المهرّبة، مشيرة إلى أنها كبّدت خزينة الدولة خسائر تقدّر بحوالي 750 مليون دولار بسبب تهرّبها من دفع الضرائب.
ويمثّل التهريب صداعا مزمنا لتونس، خاصة الوقود، حيث يباع لتر البنزين المهرب من ليبيا بـنحو 6 أضعاف سعره، وفق البنك الدولي، فضلا عن منتجات غذائية واستهلاكية أخرى مجهولة المصدر، والتي ألحقت ضررا كبيرا بالصناعة المحلية وأدت إلى غلق العديد من الشركات لأبوابها.
وتفاقم نشاط التهريب في تونس نتيجة عوامل أمنية وسياسية، وتحوّلت المسألة من مجرد متنفّس لتخفيف وطأة الظروف الصعبة لسكان المناطق الحدودية إلى تجارة مـوازية تهـدد النمو، لما يسبّبه من نزيـف ضـريبي كبير يفاقم متاعب الدولة.
وفشلت السلطات في كبح التهرّب الضريبي الناجم أساسا عن نشاط التهريب الذي ينتعش ويراكم الأرباح ويبطل كل قواعد المنافسة. ويعاني التجار المنخرطون في السوق الرسمية ممّن يدفعون الرسوم الضريبية للدولة، ولا تباع سلعهم لارتفاع أسعارها مقارنة بالسلع المهرّبة.
وأمام عجز الدولة عن التخلص نهائيا من التهريب كثيرا ما ارتفعت أصوات سياسيين وخبراء داعين إلى إدماج التجارة الموازية والتهريب في الاقتصاد الرسمي في محاولة لاحتوائه.
ولطالما دعا المختصون إلى تطوير المنظومة القانونية لعمل المصالح الجمركية، وهي قوانين بها عدّة ثغرات، ودون تغييرها لا يمكن التصدي للتهريب.
وسبق أن أكد النقابي في جهاز الجمارك محمد البيزاني أن القوانين والتشريعات المتعلقة بمكافحة التهريب، لم تعد مناسبة للمرحلة الاستثنائية التي تمر بها تونس مع استفحال النشاط وخطورته.

وأوضح البيزاني أن ظاهرة التهريب خرجت من منطق الأعمال المعزولة إلى المواجهات المباشرة بين المهرّبين ووحدات الجمارك، مما نتج عنه اعتداءات وحالات وفاة بين الطرفين. وكثيرا ما أفضت المواجهات بالمناطق الحدودية إلى حالات وفاة من الطرفين نظرا إلى تحصّن المهرّبين بالفرار وامتناعهم عن التوقف.
وتشهد القوانين المنظمة لعمل الجمارك بعض الثغرات، حيث أنها لا تحدّد ولا توضح العديد من الإجراءات كالمطاردات وحدود التوقف، أو في ما يتعلق بالتهم بالقتل العمد التي تخرج من الحيز الجمركي.
ويثير عدم امتثال الشاحنات لشارات التوقف الشكوك حول إمكانية تهريب سلاح أو مخدرات، وعادة ما تطارد الوحدات نحو 30 شاحنة تهريب في نفس الوقت، مما يجعلها في مواجهة كبيرة ومستمرة.
وتحاول الحكومة التونسية إعطاء نفس جديد لاقتصاد البلاد المتعثر بالتركيز على محاصرة عمليات التهريب وتوفير فرص عمل للشباب، وهو ما ترجمه إنشاء مناطق حرة وخاصة على الحدود الجزائرية والليبية العام الماضي بعد سنوات من التأخر في تنفيذ هذه الخطط.
وأعطت الحكومة في مارس الماضي شارة الانطلاق في إنشاء المنطقة اللوجستية والتجارية في بن قردان جنوب البلاد، باستثمارات تقدّر بحوالي 33 مليون دينار (12 مليون دولار)، لكنها لم تدخل بعدُ حيز التنفيذ الفعلي. ولا تزال مشاريع أخرى مماثلة تنتظر التنفيذ، في مشهد يختزل البطء الشديد لمراحل سير مثل هذا النوع من الاستثمارات.
وأمام الحكومة المقبلة تحديات كبيرة لتنظيم هذا القطاع لا فقط لأهميته على المستوى الاقتصادي وإنما على المستوى الأمني أيضا، بما أن التهريب يغذي الإرهاب ويفتح له المنافذ، مما يستوجب حلا عاجلا لصد التهريب والإرهاب العابرين للحدود.
وكانت تونس قد أبرمت في 2003 اتفاقية مع الجزائر تقضي بإقامة منطقة تبادل حر على طول الحدود بين البلدين تضم 14 منطقة تجارية مشتركة للمساهمة في تنمية المناطق الحدودية والتقليص من ظاهرة التجارة الموازية، لكن لم يتم حتى اليوم تحقيق تلك الوعود على أرض الواقع.