تونس بتوقيت الفقر.. أيهما أفضل الديمقراطية أم لقمة العيش

بين صراعات السياسيين على السلطة يشعر التونسيون بضياع آمالهم الكبيرة، خاصة مع تفاقم ظاهرة الفقر التي تمس طبقة مجتمعية هامة رغم أنها نتاج مباشر للتجاذبات السياسية، لتصبح المعادلة الصعبة في تونس: هل يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية معا؟
السبت 2018/01/13
التونسيون "يذلون" يوميا أمام سلالهم

تونس – “لا شيء يربطنا بالدولة التونسية سوى بطاقة التعريف الوطنيّة”، كلمات أصبحت معتادة في تونس بعد أن قالها شاب ريفي ذات شتاء قتل الإرهابيون في الجبل ابني عمه. رغم ذلك، لم يتغير شيء؛ لا يزال السياسيون في عليائهم يراقبون الفقراء يتجرعون قهرهم.

وقد اكتمل المشهد هذا الأسبوع عندما خرج مواطنون في “عيد ميلاد” الثورة السابع، يطالبون بالتراجع عن الزيادات التي صعبت حياتهم.

المعادلة الصعبة

أعاد غالبية التونسيين ترتيب تطلعاتهم، حيث باتوا يفاضلون “دولة قوية” و”توفير الأمن” و”لقمة العيش” على “ديمقراطية ناشئة ومتعثرة” بدت “فوضى” أكثر منها “توجها” واضحا.

وأظهرت نتائج عمليات سبر للآراء أعدتها ثلاث مؤسسات متخصصة هي “سيغما كونساي” و”نمرود” و”مركز الدراسات الاجتماعية والسياسية”، أن التونسيين في أغلبهم يضعون “تحسين أوضاعهم الاجتماعية ومستوى المعيشة في صدارة أولوياتهم، قبل حرياتهم السياسية المدنية الفردية منها والعامة”.

وقد تدنت ثقة التونسيين في الأحزاب السياسية إلى أسوأ المعدلات، إذ لم تتجاوز نسبة 29 في المئة بعد أن فشلت في كسب التأييد الشعبي نتيجة غرقها في أزمات داخلية وفشلها في طرح برامج تنموية وسياسية مقنعة.

ويؤشر تدني الثقة في الأحزاب السياسية على تدني ثقة غالبية التونسيين في العملية الديمقراطية ذاتها، باعتبارها “تنافسا” بين الأحزاب بناء على خطط وبرامج تتفاعل مع المشاغل الحقيقية التي تستأثر بالرأي العام.

وتؤكد دراسة أخرى أعدها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية أن 93 بالمئة من الذين شملتهم الدراسة يؤكدون أن وضعهم الاقتصادي والاجتماعي قبل الثورة كان أفضل بكثير مما هو عليه الآن، فيما أكد 71 بالمئة من المستجوبين أن الوضع في تونس كان يمكن أن يكون أحسن لو لم تقم الثورة.

وشدد 87 بالمئة من المستجوبين على أنهم يختزلون مطالبهم في “توفير لقمة العيش أولا”، فيما قال 13 في المئة فقط إنهم يطالبون بالديمقراطية.

وتؤكد مثل هذه المؤشرات أن غالبية التونسيين يعتبرون أنفسهم “ضحايا” لثورة قوضت أوضاعهم المعيشية وزجت بتماسك المجتمع في حالة من التفكك والفوارق الاجتماعية المجحفة.

لا قيمة للحرية وسلة المواطن البسيط فارغة

وفي ظل تراجع أداء مؤسسات الدولة ودورها في الحفاظ على التوازنات الاجتماعية سواء من خلال نظام تعديل السوق أو بحماية الفئات الهشة من شراسة الاقتصاد المتوحش عبر سياسات الترفيع في الأجور، بدا “الفقراء الجدد” ضحية لمنظومة معقدة لديمقراطية الفوضى.

وبدا سؤال أيهما أولى؛ رغيف الخبز أم الديمقراطية، يطرح نفسه بقوة في أوساط التونسيين الذين تختلف إجاباتهم.

يقول الأستاذ عمار الجماعي “إذا كان عليّ أن أختار دفاعي عن العيش أو عن الديمقراطية فسأدافع عن الديمقراطية أوّلا، لأنّ من ذاق ذلّ الاستبداد لا شكّ سيعلم أنّ ‘كسرة خبز يابسة’ في الديمقراطية أفضل من كل الموائد الممدودة تحت الرقابة الدكتاتوريّة!”.

ويضيف الجماعي في تصريحات لـ”العرب” “كنّا زمن الرئيس الحبيب بورقيبة ننزعج من تسميتنا ‘خبزيزت’ أي الباحثون عن تحصيل الخبز لأننا كنّا -في أعينهم- لا نصلح للديمقراطية فهل حقق هذا الخيار تنمية فارقة أو أنجز عيشا كريما؟”.

ويؤكد “ترسيخ الديمقراطية بلاعبين حقيقيين وأحزاب وطنية وإشاعة مناخ من الشفافية والوضوح وتأمين الناس في أنفسهم وعائلاتهم، هي السبيل الأوحد لتنمية يسعى إليها المواطن ويعمل من أجلها لضمان عيشه الكريم”.

ويختم “ما أسهل توفير العيش (الخبز في منطوقه المشرقي)، ولكن ما أصعب إقامة دولة تحترم مواطنيها، لهذا أنا منحاز لخيار الدولة الديمقراطية لأنه غدا ستتوفّر لي موارد الحياة فإن لم تكن لي فلابني وحفيدي.. وقديما قالها المسيح عليه السلام ‘ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان\'”.

وبالمقابل يسخر معلقون “أين هذه الديمقراطية نحن لا نراها”.ويقول الخبير الإعلامي التونسي محمد شلبي “بالله كفى ترديدا لكليشي ‘من غير الممكن إسقاط النظام في ظل الديمقراطية’. أثبتوا أننا في نظام ديمقراطي أولا”.

بلقيس البراهمي: ليس من الممكن تحقيق الديمقراطية على قاعدة صحيحة لشعب جائع

ويضيف “مجلس نواب الشعب الذي هو في الواقع مجلس أحزاب أشبه بمجالس ‘قيادة الثورة’ التي أصابتنا تخمتها بداية من الخمسينات غير أنه مجلس ‘قيادة ثورة’ موسع. فلا هو نظام برلماني ولا رئاسي ولا نصف رئاسي ولا يمكن أن يكون مجلسيا. هو مجلس أحزاب…نعيش للأسف تحت نظام دكتاتورية الأحزاب”.

ومن جانبها تؤكد بلقيس البراهمي الناشطة في حملة “فاش نستناو” (ماذا نتنظر)، وهي ابنة النائب في المجلس التأسيسي والقيادي في الجبهة الشعبية محمد البراهمي الذي اغتيل برصاص متطرفين كما أنها ابنة النائبة في مجلس نواب الشعب مباركة البراهمي، “لا يوجد اختيار أولى من الآخر أنا أختار الديمقراطية مقرونة بلقمة عيشي”.

وتجيب في تصريح لـ”العرب” بمثل تونسي يقول “لسنا مجبرين نبوسوا اللفعة (تقبيل الأفعى) ولا نطيحو في البير (أو السقوط في البئر)، لا توجد حرية دون كرامة وعدالة اجتماعية، وليس من الممكن تحقيق الديمقراطية على قاعدة صحيحة لشعب جائع”.

وتضيف “تحقيق الشغل والحرية والعدالة الاجتماعية ليس مستحيلا، لو السلطة لا ترهن نفسها لصندوق النقد الدولي ولقوى الاستعمار وتكون سيدة نفسها وتتخذ إجراءات اقتصادية لا تعادي الشعب ولا تكون مجحفة في حقه، ستستطيع حينها تحقيق التنمية وحدا محترما من العدالة الاجتماعية، لكن مادامت تستعمل الحل الأمني وتواجه الاحتجاجات بالقمع والاعتقال وتخرق الدستور الذي يعطي المواطن الحق في التظاهر والإضراب، وتشوه المحتجين وتضرب بقواعد الديمقراطية عرض الحائط في محاولة منها لتحويل وجهة مطالب الناس من العدالة الاجتماعية للحريات الأساسية، فلن تحقق لا ديمقراطية ولا عدالة اجتماعية”.

ومن جانبها تؤكد ملاك الميساوي “لن تستطيع تمكين شعب ‘جاهل’ من الحرية والديمقراطية، لأنه ببساطة سيضع الحبل حول رقبته ويشنق نفسه دون الحاجة لدكتاتور”.

وتضيف “الاحتجاج مشروع ومضمون قانونيا، لكن هل تعرفون كم تكلفت ثورة 2011، ثورة الحرية والكرامة؟ نحن ندفع ثمنها إلى الآن”.

وتشرح “عندما تكلم بن علي وقال أنا فهمتكم لماذا لم نعطه فرصة حينها؟ لأننا وقتها لا نعرف لا ديمقراطية ولا حرية”.

وتتساءل “اليوم أليس التونسيون من أحضروا حزبي نداء تونس والنهضة إلى الحكم وهم في كامل مداركهم العقلية؟.

وتؤكد في تصريح ساخر “فليسقط النظام الذي نعيشه لأننا السبب فيه، نحتاج ثورة على العقول أولا من يقول الشعب يريد الثورة من جديد.. أنا أجيبه الشعب يحتاج تركيب مخ جديد”.

سبع عجاف

تمضي الأحد سبع سنوات على اندلاع ثورة الياسمين في تونس (17 ديسمبر2010 -14 يناير 2011) التي أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي ونادت بـ”الحرية والكرامة”.

ويرى ملاحظون أنها مثلت من الزاوية السياسية “منعرجا حاسما” في تاريخ تونس؛ حيث “خلصت البلاد من وضع لم يعد يرضي التونسيين، لا سيما على المستوى السياسي والحقوقي، وساهمت في إرساء ‘ديمقراطية’ وليدة تكاد تكون استثناء في العالم العربي”.

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان

لكن على الرغم مما حققته الثورة من مطالب على المستوى السياسي، مازال عدد كبير من التونسيين يشعرون، إلى اليوم، بنوع من الإحباط على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ فأين الكرامة وهم يذلون يوميا أمام متطلبات عيشهم؟

وحسب إحصائيات المعهد الوطني التونسي للإحصاء تبلغ نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى 3.08 بالمئة أي حوالي 400 ألف تونسي، في حين تبلغ نسبة التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى 11.4 بالمئة أي قرابة مليون و200 ألف شخص. وفي ظل التجاذبات السياسية وحالة التفكك الاجتماعي التي تعيشها تونس غاب التوزيع العادل للثروات بين الجهات، مما ساهم في اتساع الهوة وانقسام المجتمع إلى فقير ومتوسط، بل إن الطبقة الوسطى قد اندثرت والتحق من كانوا بها بطبقة الفقراء ومحدودي الدخل.

وفي خارطة توزيع نسب الفقر بالبلاد حسب المعهد الوطني للإحصاء، نجد أعلى نسبة بمحافظات الوسط الغربي بـ29.4 بالمئة تليها محافظات الجنوب الغربي بـ14.07 بالمئة ثم الجنوب الشرقي بـ11.04 بالمئة و11.01 بالمئة بالشمال الغربي خاصة.

في حين تبلغ نسبة السكان تحت خط الفقر الأعلى في ولايات الشمال الشرقي 9.06 بالمئة و6.09 بإقليم تونس الكبرى الذي يضم محافظات تونس ومنوبة وأريانة وبن عروس.

ويشار إلى أن أقل نسب الفقر توجد بالوسط الشرقي حيث تبلغ 5.04 بالمئة.

ويقر رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبدالرحمان الهذيلي، أن الوضع الاجتماعي لم يتحسّن بعد الثورة، مؤكدا “لم يتحقق شيء من مطالب الثورة على المستوى الاجتماعي، بل ساءت الأمور خاصة بالنسبة للفئات الاجتماعية التي علقت آمالا كبيرة على الثورة في تحقيق مطالبها وتسوية ملفاتها لا سيما في المناطق الداخلية”، معتبرا أن الحكومات المتعاقبة “فشلت” في إطفاء لهيب الاحتجاجات.

وفي الوقت الذي كان فيه مطلب العدالة الاجتماعية رئيسيا، يرى الخبير الاقتصادي كريم الطرابلسي أن الحكومات المتعاقبة بعد ثورة 2011، لم توله اهتماما كبيرا ولم تنجح في تحقيق الكثير من أهداف “الثورة الشعبية”، وهو ما يبرهن عليه “تواصل الاحتجاجات”. ومن جانبه، يرى الباحث في التاريخ السياسي عبداللطيف الحناشي أنه من قبيل السقوط في العدمية، قول “لم يتحقق شيء” من المطالب التي قامت من أجلها الثورة، معتبرا أن ما أنجز “كان قليلا ولا يتماشى وانتظارات شباب الثورة، على الأقل، وجزء كبير من المجتمع السياسي أيضا”.

الديمقراطية والفقر لا يلتقيان

يجمع المنظرون الاقتصاديون والمحللون السياسيون على أن الديمقراطية لا تتعايش مع الفقر ولا تتحمله، ولا تجتمع معه تحت سقف واحد. وإذا ما اجتمعا لمدة طويلة فإن هناك خللا ما سيقع والمتسبب فيه هي الديمقراطية لأنها تشمئز منه لكثرة طلباته، بالمقابل تتحايل عليه بكثرة الوعود البراقة التي تنمقها وسائل إعلامها، وخاصة أثناء الاستحقاقات السياسية التي تتذكر وجوده “لتضخيم نسبة المشاركة الانتخابية” وظنا منه أن هذه الأوضاع ستتغير هذه المرة، مصدقا أن التغيير الاجتماعي سيأتي من الصندوق المرصع بشعار”انتخابات حرة ونزيهة”!، فيسارع عن بكرة أبيه ممارسا حقه الانتخابي رغم أنه “جوعان“ فحُجب عنه حسن الاختيار السياسي، ولم يتمكن من التدقيق لا في هوية المرشحين ولا في برامجهم السياسية… فكانت النتيجة المزيد من الوعود والانتظار.

صحافية من تونس

20