تونس: النهضة وتطويق قصر قرطاج

الذين انتظروا مساء السبت الماضي من رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أنّ يعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية أو أن يقدم نصف وعد بالترشح للاستحقاق الرئاسي القادم 2019، عليهم مراجعة حساباتهم السياسية، فالحركة لا تريد لا كرسي رئاسة الحكومة ولا تطلب كرسي الرئاسة، بقدر ما تبتغي مقاعد باردو، مقر البرلمان، وتسعى إلى التطويق الناعم لقصر قرطاج، حيث مدار الحكم ومحور السلطة وقطب رحى النفوذ الحقيقي.
الذي استمع إلى خطاب الغنوشي الأخير، يتبيّن أن لخطاب الحركة مستويين اثنين. الأول ظاهر ومكشوف قوامه توزيع البيض السياسي والانتخابي على كافة السلال الحزبية بلا استثناء، فهي تغازل الرئيس الباجي قائد السبسي ومن ورائه النداء وتوجه قرصة ناعمة لأذن يوسف الشاهد، وتستشهد بمقولة القيادي في الجبهة أحمد الصديق حول الثورة التونسية، وتتقاطع مع الأحزاب الدستورية في تقييمها السلبي لهيئة الحقيقة والكرامة، وتوزّع ورود الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل. أما المستوى الثاني فهو المستوى المتمحور حول المشاركة الفعلية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة وهي المشاركة التي ألحقها الغنوشي بمصطلح التوافق مع الكتل الأخرى.
بُني خطاب الغنوشي على فكرة التضامن النقدي من “أعداء اليوم حلفاء أمس بالتأكيد”، و”من حلفاء اليوم أعداء الغد بالترجيح”. فالنهضة تؤيد السبسي في دعوات التهدئة ولكنها تختلف معه في مبادرة المساواة في الميراث، وهي أيضا تساند الشاهد في حكومته ولكنها تحذّره من توظيف أجهزة الدولة في الانتخابات الرئاسية. هكذا تؤصل النهضة لفكرة “الرمادية الانتخابية”، فالكلّ مؤهل ليكون ضمن مقولة “التآلف الحكومي”، والكل بإمكانه أن يفكّر في الرئاسيات عبر نيل الرضا والتزكية من جبة الغنوشي.
اختار الغنوشي أن يُطلق الحملة الانتخابية باكرا عبر الإعلان عن عدم ترشحه للرئاسية وعبر تأكيده أيضا أن النهضة معنية بالانتخابات الرئاسية إما بمرشح من الداخل وإما بمرشح توافقي.
لن نتردد في استبعاد الفرضية الأولى، أي ترشيح شخصية من داخل الحركة، لأنّ الدرس المصري عام 2013 علّم النهضة أن التغول المباشر يجعل من الحركة صيدا إعلاميا وسياسيا وإقليميا سهل الاقتناص، ولأن الدرس التركي لقّنها أيضا أنّ التوغل يكون عبر البلديات أولا، ثم البرلمانيات ثانيا، ثم يكون الاكتساح الاقتراعي في كافة مناحي السلطات قبل أن تمأسس الدولة على هيكل الحزب الدولة ودولة الفرد.
تطرح النهضة مبادرتها للتوافق الانتخابي لعام 2019، وهي تقوم على حكومة ملزمة بتوازنات البرلمان، ورئاسة منضبطة لشروط التوافق مع النهضة
لتبقى الفرضية الثانية هي الأقدر على التحليل وتقديم الإجابات الأولية، فبمقتضى إشارات الغنوشي من الواضح أن الحركة ذاهبة إما إلى ترشيح شخصية مستقلة من خارجها، وإما أنّها ستتفق مع أحد الأحزاب على مرشح توافقي يكون قادرا على تأمين محاذير النهضة في السياسة الخارجية والداخلية وعلى تقديم مرشحيها ضمن القناصل والتمثيليات التونسية، مقابل دعمه وتأييد حزبه في التحالفات الحكومية.
تريد النهضة تشريكا في الحكم الرئاسي وتمثيلا في القصر، ذلك أن ابتعادها عن قرطاج جعل القصر مناط تشكل سياسات اجتماعية وأمنية مضادة لها، انطلاقا من مشروع المساواة في الإرث مرورا باستدعاء المحامين في قضية الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد وليس انتهاء بالمؤتمرات الصحافية للرئيس السبسي والتي أعلن خلالها القطيعة مع النهضة. فسياسات القصر خلال الأشهر الأخيرة أقلقت النهضة، خاصة وأنها لامست الخيوط الحساسة لدى الحركة ونعني بها الملف الأمني والغرفة السوداء والإصلاحات المجتمعية خارج منطوق الدين.
تريد النهضة إدخال قصر قرطاج بيت الطاعة، دون أن تكون عينها بالضرورة على كرسي الرئاسة. يكفيها وجودا وازنا ضمن الفريق الاستشاري للرئيس القادم الذي سيدخل القصر بعد اتفاقات على المحظور قبل المشروع، وكما حكمت في القصبة انطلاقا من إحكام قبضتها على المجلس التشريعي هي اليوم تريد تطويقا ناعما لقرطاج عبر توافقات الترشيح وتقاطعات تحريك الماكينة الانتخابية لصالحها.
تطرح النهضة مبادرتها للتوافق الانتخابي لعام 2019، وهي تقوم على حكومة ملزمة بتوازنات البرلمان، ورئاسة منضبطة لشروط التوافق مع النهضة حيث الفيتو ضد تحريك الملف الأمني وضد التحرك في فلك المحظور الديني.