تونس: المحكمة الدستورية والمحاصصة

الطبقة السياسية التي فوتت على تونس جني ثمار العدالة الانتقالية، لا تجد ضيرا في استدرار سيناريو هيئة الحقيقة والكرامة مع المحكمة الدستورية.
الخميس 2019/07/11
النزاع الدائر اليوم تحت قبة البرلمان يستحضر سرديات ماضوية تكشف عقلية الفاعل التشريعي والسياسي

يُعاني مسار الانتقال الديمقراطي في تونس من لوثة المحاصصة الحزبية والأيديولوجية التي سُرعان ما تستحيل إلى احتراب مقيت بين السرديات الماضوية بشكل يضرب في الصميم لا فقط روح التوافق بين الأطراف السياسية، بل يحول دون تأمين الهيئات الدستورية لأدوارها المنوطة بها.

وكلما اتجه المسعى التشريعي إلى إنشاء هيئة مستقلة أو تكوين جسم قضائي، إلا واستلت سكاكين الأدلجة والدمغجة من أغمادها، وانخرط الفاعلون الإعلاميون والسياسيون في حروب دعائية شاملة تصبح عقبة أمام مسار الانتقال الديمقراطيّ ككل.

فوّتت لوثة الأدلجة والدمغجة على تونس، تجربة رائدة في مسار العدالة الانتقالية كان بإمكانها تأصيل خيار توافقي وتشاركي للمحاسبة والمسامحة.

وعوضا عن استمرار الاحتراب بين مقولات الانتماء إلى الثورة، أو الانضواء صلب الدولة الوطنية، كان بإمكان العدالة الانتقالية لو تجاوزت حسابات الأحزاب، أن تضع اللبنات الأساس للانتقال الجمعي نحو حفظ الذاكرة المشتركة والتجاوز الجماعي.

صحيح أنّ جزءا من الأطراف الفاعلة في الإعلام والسياسة والاقتصاد في تونس، لم تكن مرتاحة لمسار المحاسبة والمساءلة، وصحيح أيضا أن البعض استغل واجهة التجاذب حيال سهام بن سدرين لتحويل وجهة استحقاق العدالة الانتقالية نحو قضايا ثانوية، ولكن الأصح أنّ العدالة الانتقالية في تونس بُنيت على أرض متحركة ورخوة.

وعلى الرغم من النتائج المخيّبة للآمال في ما يخص مسارات العدالة الانتقالية، إلا أن الطبقة السياسية لا تزال تعتمد نفس مسلكية المحاصصة ونفس مُقاربة العصبية الأيديولوجية في تعاملها مع ملف المحكمة الدستورية والتي تعد لبنة أساسية من لبنات الانتقال الديمقراطي.

فعلى مدى أكثر من سنة تقريبا والكتل النيابية ومن ورائها الأحزاب التي يبدو أنها لم تتجاوز بعد مرحلة المراهقة السياسية، لا تزال في غيها الأيديولوجي، تتبادل الفيتوات في البرلمان ضدّ المترشحين لعضوية المحكمة الدستورية، وهي تعلم أن كل تأخير في إرسائها سيزيد من تعقيد المشهد السياسي والانتخابي والقضائي في البلاد، وقد يدفعها نحو الاستعصاء.

الجدل القائم اليوم بين أسماء المرشحين لعضوية المحكمة الدستورية، قائم على سرديات سياسية مقيتة، لم ترتق إلى مستوى مُناقشة المقدمات والمؤهلات الموضوعية لعضوية المحكمة الدستورية.

النزاع الدائر اليوم تحت قبة البرلمان يستحضر سرديات ماضوية تكشف عقلية الفاعل التشريعي والسياسي في تونس، وهي عقلية تقدم الذاتي على الموضوعي، وتُعلي مصالح الحزب على المؤسسة، فكيف لعقلية الطائفية الحزبية أن تُنتج هيئات دستورية ومحاكم مستقلة تراعي حقوق العباد والبلاد.

وفي الوقت الذي ينتظر فيه التونسيين إجابات راهنة على المحكمة الدستورية، والتي افتقدها الجميع، الخميس قبل الماضي، تأتي الإجابات بأنّ الأسماء المترشحة لا تنال رضا الكُتل ولم ترتق إلى مستوى طمأنة فائض الأدلجة لدى رؤساء الأحزاب.

وعندما تسقط قامات في القضاء الدستوري بعصا الأدلجة، وعندما تعجز أخرى عن طرق باب المحكمة الدستورية بفعل الدمغجة المضادة، وعندما يصير مصير الفاعل القضائي الأهم في كل الديمقراطيات، تحت رحمة أحزاب سياسية تعيش على الانقلابات وعلى الانشقاقات والغُرف السوداء، فلا بد من التوقف مليا لإيقاف الانجراف الأخلاقي والسياسي.

فليس من المعقول أن يتعطل مسار المحكمة الدستورية باسم الزبونية السياسية والمحسوبية الحزبية، وليس من المنطقي أن يُحاكم المرشح للمحكمة الدستورية بغير مقياس النزاهة والكفاءة، وليس من الأخلاقي أن تصير الأخيرة مجالا لصراع الحصص بين تلك التابعة لرئيس الجمهورية وتلك الراجعة للكتلة النيابية الغالبة.

يبدو أنّ الطبقة السياسية التي فوتت على تونس جني ثمار العدالة الانتقالية وتحصيل مُخرجات المحاسبة، لا تجد ضيرا في استدرار سيناريو هيئة الحقيقة والكرامة مع المحكمة الدستورية، وفي تفريغ دورها الاعتباريّ كفاعل قضائي حكيم ومحكم في القضايا المصيرية للبلاد.

9