تونس.. السيادة المنقوصة

السبب الذي يفرض مكانته التحليلية، في التطاول الدبلوماسي على الدور التونسي، يمكن في السيادة الاقتصادية التونسية المنقوصة والمتهاوية بفرط سياسة الاقتراض من المانحين الإقليميين والدوليين.
الخميس 2019/07/18
السفير التركي والخروج عن أدبيات ومدونة التخاطب الدبلوماسي

يجسد سلوك السفراء وخطابهم حيال الدول المستضيفة مؤشرا رئيسيا لا فقط عن طبيعة التوازنات القائمة بين الدولة الأصل والمُضيفة، بل أيضا عن القوة الناعمة لتلك الدولة وقدرتها على فرض الانضباط الدبلوماسي على كافة ممثلي العواصم والمنظمات الإقليمية والدولية.

ما يأتيه الكثير من الدبلوماسيين في تونس، يخرج شكلا ومضمونا عن مقتضيات السلوك الدبلوماسي والتقاليد المتعارف عليها ضمن التخاطب الدولي.

فعلى مدى أسبوع تكالبت على الدولة وعلى السيادة التونسية، تصريحات ممثلي شريكين اقتصاديين معتبرين. الأول متمثل في سفير الاتحاد الأوروبي الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء في التخاطب مع دولة سيدة وفي التعاطي مع شؤون اقتصادية محلية، ولئن سلمنا بمصداقية مأسسة الفساد وعمقه الزبوني في تونس، فلا يُمكن قبول تنزيل هذا المنطوق في سياق تصريحات دبلوماسية.

أمّا الثاني فهو السفير التركي الذي أبى إنهاء مهمته التمثيلية لبلاده في تونس، قبل تسجيل مواقف منددة ببيروقراطية المؤسسات وثقلها الإداري، الأمر الذي فوّت على بلادنا -وفق تصريحات السفير- العديد من الفرص الاقتصادية التركية التي وجدت في الجزائر والمغرب خير ملاذ لها.

لن نختلف في صدقية المتن، وهي أقوال وتصريحات يقع تداولها بشكل أكثر حدّة وعمق من قبل الإعلام التونسي والمعارضة البرلمانية والسياسية، وقد نجد لها صدى في بعض الأوساط الحاكمة في البلاد، ولكن تواترها بشكل غير مسبوق يفرض على التحليل تصويبا نحو الأسباب المباشرة والعميقة لهذا الخروج عن أدبيات ومدونة التخاطب الدبلوماسي.

لا يُمكن فصل تصريح السفيرين عن السياق الاقتصادي بين تونس والاتحاد الأوروبي من جانب، وتونس وتركيا من جانب ثان، وهو سياق يشهد الكثير من التجاذب على عدّة جبهات وملفات.

فمن الواضح أن النادي الأوروبي لم يستسغ التردد التونسي في التوقيع على اتفاقية “أليكا”، وهو تردد راجع إلى الرفض الصريح للمنظمات الوطنية وللمجتمع المدني لمضامين الاتفاقية.

حيث أجمعت تصريحات المنظمات الوطنية في تونس، على أنّ الاتفاقية ستكون في أفضل أحوالها نموذجا رديئا عن مسار برشلونة، الذي دخلته تونس في التسعينات قصد تطوير اقتصادها وتنويع الاستثمارات، فاتضح أنّه ترياق متوسطي لجسد أوروبي مريض عبر دفع السموم إلى الجسم المغاربي.

ولئن وجب علينا التنسيب في التوصيف والتشخيص، فإنه من الواضح أن المنتظم الأوروبي لم يقدم للمجموعة الوطنية التونسية ما يهدئ روعها حيال التداعيات السلبية للاتفاقية.

ولئن كان من حق الدولة التونسية أن ترفض الاتفاقية في شكلها الأصلي أو في بعض بنودها، خشية تصدع التوافق الوطني القائم وضرب السلم الاجتماعي، فمن واجب الاتحاد الأوروبي القبول بالسيادة التوافقية لتونس، ومن واجبه أيضا عدم الاستقواء بالملفات القذرة -التي يعرفها الكبير والصغير في البلاد- للتشكيك في صواب الموقف الرسمي أو لفرض منحى تفاوضي جديد مع الشركاء التونسيين.

أما تركيا فيبدو أن اختيارها لتونس كبوابة أولى نحو أفريقيا، وكحديقة خلفية نحو أوروبا، وكمحطة متقدمة في العالم العربي، اصطدم بالكثير من المعوّقات السياسية والإستراتيجية.

وهي معوقات متصلة جزئيا، بالمسلكية الإدارية التونسية الثقيلة وبالعقلية البيروقراطية المتثاقلة، ولكنها وهو الأصل، مرتبطة أيضا بالدور التركي الخارجي الذي لا يحظى بالكثير من الترحاب حيث يفرض بشكل مباشر اصطفافات إقليمية لا تبتغيها العواصم العربية والأفريقية في زمن السماوات المفتوحة والتعددية القطبية.

إلا أنّ السبب الذي يفرض مكانته التحليلية، في التطاول الدبلوماسي على الدور التونسي، فكامن في السيادة الاقتصادية التونسية المنقوصة والمتهاوية بفرط سياسة الاقتراض من المانحين الإقليميين والدوليين.

هُناك سيادة اقتصادية مفرّط بها من قبل الفاعلين السياسيين منذ سنوات الثورة، فأن يصير الوضع الاقتصادي والاجتماعي رهين شروط صندوق النقد الدولي، مؤشر خطير يجعل من الدولة هينة الجانب من الصديق قبل العدو، ومفتقدة للقوة الناعمة التي تفرض مكانتها على الإقليم القريب والبعيد.

وعندما تفقد تونس سيادتها الاقتصادية، وتصير مشاريعها الاستثمارية ومرتبات موظفيها ومعاشات متقاعديها، مرتبطة بموافقة أو فيتو من صندوق النقد الدولي، يصير التطاول الاقتصادي أمرا معتادا ذلك أن اليد السفلى لا تصنع سيادة.

وإلى حين استعادة السيادة بشكلها الكامل، وعلى رأسها السيادة الاقتصادية والمالية، ستصبح مثل هذه التصريحات المتطاولة خبزا معتادا.

9