تونس السعيدة

في العشرين من مارس من كل عام، يحيي العالم يوم السعادة، ذلك الشعور المنشود من كل البشر، الذي أصبح مبهما، يستعرضه كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم سرعان ما نكتشف أنه كان استعراضا كاذبا. تذكّر كم مرة رأيت حبيبين سعيدين ثم وصلك خبر انفصالهما أو قتل أحدهما الآخر!
السعادة اليوم تحولت إلى مطلب صعب، على الأقل بالنسبة إلى شعوب المنطقة العربية، مطلب يختصر في السفر والفسَح والهدايا والمفاجآت الغرامية واستعراض الملابس والمساكن والإنجازات الصغيرة والكبيرة أمام الملأ، فيشعر معها من لا يستعرض كامل حياته أن شيئا ينقصه لا يدرك ما هو، فيزداد قلقه وسخطه حتى أنه قد يستسلم للاكتئاب.
الاكتئاب ذلك الشبح الذي يهدد الشعوب وخاصة الشباب، آفة العصر الحديث، كلما ازدادت المادية والفردانية تغلغل في الأنفس. تقول منظمة الصحة العالمية إن ما يقدر بنحو 3.8 في المئة من السكان يعانون من الاكتئاب، بما في ذلك 5 في المئة من البالغين و5.7 في المئة من البالغين الذين تزيد أعمارهم على 60 عاما.
وتقدر إحصائيات المنظمة أن نحو 280 مليون شخص في العالم يعانون من الاكتئاب، وهذه الإحصائيات قديمة نسبيا حيث تعود إلى عام 2023، والمؤكد أنها ازدادت لأن كل محفزات الاكتئاب تزايدت.
هذا بالنسبة إلى الاكتئاب وحده، فما بالك بالقلق وبقية الاضطرابات النفسية التي تسببها الحياة اليومية وتحدياتها، والتي تبعد الإنسان عن الشعور بالرضا والامتنان لأنه لا يزال حيا ولديه فرصة جديدة ليستمتع بحياته كما هي.
في تونس لسنا بمنأى عما يحدث في العالم، نحن لا نمر بأزمات كبرى كالحروب والكوارث الطبيعية والبيئية والأزمات الاقتصادية الخانقة، ونحمد الله على ذلك، لكن البلد تحول إلى حاضنة لكل محفزات غياب السعادة أو هكذا تراه نسبة كبيرة من الشباب الباحثين عن أي فرصة للهجرة.
هذا إضافة إلى القيود الاجتماعية والاقتصادية التي تزايدت وخنقت كل محاولات الاستثمار والتغيير ومواكبة التطورات الحاصلة في مناطق كثيرة من العالم، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالتافهين والجهلة، كلما فتحتها وجدت مجموعة تتصارع ويكيل بعضها للبعض الآخر أبشع أنواع السبّ، وآخرين يستعرضون الملابس وأحدث صيحات الموضة في المحلات، نساء كثيرات تحولن إلى كاميرات متجولة من “بوتيك” إلى آخر، يساعدن على تحفيز العادات الاستهلاكية لدى بنات جنسهن القابعات خلف هواتفهن.
أما وسائل الإعلام التقليدية فهي سجينة برامج البيع، كلما شغّلت جهاز التلفاز وجدتهم يبيعون حتى سماهم الشعب “قنوات الكسارن” (أواني الطهي)، في المقابل هناك برامج مكررة، بعضها يفتعل مشاكل بين الفنانين ويدخل الشعب في حرب تصريحات، والبعض الآخر يحتكر الوجوه ذاتها من المنظرين الذين يتجولون بين الإذاعات والتلفزيونات، دون كلل أو ملل، يبثون سموم تفاهتهم وأفكارهم ونقاشاتهم السطحية.
تابعت صدفة برنامجا إذاعيا على إحدى الإذاعات الخاصة قبيل أذان الإفطار، وجدتهم خمسة أفراد يتكلمون في الآن ذاته، وكأنهم لم يتعلموا أبجديات العمل الإذاعي ولا التحاور، ساعة كاملة يتكلمون جميعا، حتى بحضور شيخ دين لم يمنحوه فرصة أن ينقل معلومات كاملة وواضحة للمستمع. المقدم الرئيسي هو الآخر تخلى عن شرط مهم من شروط العمل في الصحافة، أن يكون محايدا وموضوعيا.
كل شيء حولنا أصبح ضجيجا صارخا يزيد من غربة الإنسان الشعورية والفكرية، يذكّرنا بأن تونس السعيدة التي نحلم بها تحولت إلى حلم أشبه بالمستحيل، ويذكرنا أيضا بأن “السعادة ليست ما تملك أو ما أنت عليه أو ماذا تفعل كي تكون سعيدًا، إنما بماذا تفكر،” فاختر أفكارك وما تتابعه من أفكار بعناية، ولا تكتف في رمضان باختيار ما تملأ به معدتك، فعقلك أكثر أهمية من بطنك، وكما تختار الأكل الذي تحبه ويسعدك، تابع ما يحفزك ويبث فيك الأمل ويمنحك جرعة من السعادة.