تونس.. أحزاب تكنوقراط بمنطق الغنيمة الانتخابية

الخميس 2018/02/08

هي واحدة من الظواهر القليلة والاستثنائية في عالم السياسة، والتي باتت متكررة ومستنسخة دون عميق اهتمام وانتباه في السياق التونسي، حيث تعمد الشخصيات، المنعوتة بالحيادية التي تشرف على الدواوين والوزارات ورئاسة الوزارة بعد خروجها من فضاء الحكم ودواليب الدولة، إلى تشكيل أحزاب سياسية أو الانتماء إلى أخرى قصد العودة إلى ذات الكرسي الذي وصلت إليه بمنطق “كفاءتها العلمية والإدارية والفنية” أو هكذا قيل للرأي العام التونسي.

المفارقة أنّ ذات الوجوه التي أنيطت بعهدتها إدارة الدولة زمن الاحتراب السياسي والاصطفاف الأيديولوجي، إما بفرط الرهان الانتخابي وإما بصراع السرديات الفكرية والفلسفية، والتي أيضا مثّلت للتونسيين قاطرة عبور سياسي آمن، سرعان ما انخرطت في ذات اللعبة الانتخابية والسياسية بمجرد إتمام الاستحقاق الاقتراعي الأول.

لكأن في كراسي الوزارات ومقاعد السلطة تأثيرات استلابية لا تفقد فقط الفاعل السياسي وعوده الاعتبارية والرمزية التي قطعها أمام الرأي العام بعدم الخوض في الانتخابات، ولكن أيضا تجعل من فعل العودة إلى دائرة السلطة حلما وتوقا تجير من أجله كافة السبل والإمكانيات والمسلكيات، المشروعة منها وغير المشروعة.

القضية في الصميم ليست مرتبطة بحقّ الفرد في اختيار مسلكية سياسية وحزبية للوصول إلى السلطة أو العودة إليها، وإنما لأن هذا السياسي يوظف الرصيد الاعتباري والقيمة الرمزية التي اكتسبها باسم “التكنوقراط” للعودة إلى السلطة بعنوان “رئيس حزب التكنوقراط”.

ولو أردنا أن ندفع بالتحليل إلى مقتضاه، لقلنا إن هؤلاء يوظفون اليوم مرحلة سياسية مهمة في تاريخ البلاد أوصلتهم الصدفة -وشيء من تقاطعات الداخل والخارج- خلالها إلى سدة الحكم وصولجان السلطة، الأمر الذي جعلهم محط الأنظار المحلية والإقليمية وتحولوا إلى أصحاب القرار في بلد نموذج من حيث التجربة الديمقراطية الانتقالية.

كثيرة هي الأحزاب التي تشكلت بمجرد خروج أصحابها من أبواب الوزارة، ومعها أيضا سقطت العديد من أقنعة التكنوقراط التي تحيل إلى الاستعفاف عن اللهث وراء المغنم، والارتقاء فوق التكالب الانتخابي

وهم الآن يوظفون تلك المرحلة السياسية (بين 2011 و2014) التي كانوا خلالها عنوان القيادة وليس أصل التوافق، ورأس الوزارات ولا مهندسي الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، لصالح عناوين انتخابية محلية قائمة وبرلمانية ورئاسية قادمة.

القارئ اليوم للعناوين الحزبية التي تستعد لدخول المعركة الانتخابية البلدية المقامة في تونس، يبصر هذا النوع من الأحزاب الهجينة المولودة للسلطة لا للمشروع، ولإيصال مؤسسيها إلى كراسي القيادة لا إلى إعادة تأثيث المجال العام بقوّة العمل المدني والفكري.

هكذا تصبح هذه الأحزاب الوظيفية غنيمة سياسية أو حصان طروادة لإعادة ارتداء كسوة الوزارة والقيادة، أو من أجل الثأر من التاريخ الذي لم يفسح له أحيازا زمنية ليصطبغ بمقولة “صاحب الطابع الوزاري الفخم”.

كثيرة هي الأحزاب التي تشكّلت بمجرد خروج أصحابها من أبواب الوزارة، ومعها أيضا سقطت العديد من أقنعة التكنوقراط التي تحيل إلى الاستعفاف عن اللهث وراء المغنم، والارتقاء فوق التكالب الانتخابي.

المفارقة الأعجب والأغرب أن هؤلاء التكنوقراطيين، يعودون إلى المشهد السياسي والانتخابي بأحزاب تكنوقراطيّة شكلا على الأقل، بمعنى أنهم يكررون ثانية أسطوانة النأي بالنفس وتجاوز الاصطفافات الأيديولوجية والفكرية التي قسمت البلاد، وأنهم قادمون اليوم ببرامج تكنوقراط وبوجوه تكنوقراط شابة للوصول إلى مقاعد سياسية محضة.

وهو عين الوهم وجوهره، فأن يطرق السياسي ذات الباب، باب التكنوقراط، ليصل إلى الكرسي مرتين متتاليتين يؤشر إما لاستغباء للفاعل المواطني والاقتراعي التونسي، وإما لعدم استكناه لمقولة التاريخ الذي يعطي فرصة الدخول لغير مستحقيها، صلب أوراق الذاكرة الجماعية مرة واحدة فقط.

تُوهمُ أحزاب التكنوقراط الجمهور والـرأي العام بأنها تمتلك مفاتيح الخروج من الأزمات ذلك أنها ناتجة عن تجاوزها لمرحلة ما بعد الانتماءات السياسية، وأنها أيضا تحوز جمهرة من الكفاءات الوطنية الشابة الإدارية والإطارية التي تحتاجها تونس اليوم في قلب الأزمة الاقتصادية الطاحنة.

هي توهم الجمهور، لأن الأحزاب السياسية تُبنى على الانحيازات الفكرية والقراءات التاريخية وعلى القيم الإنسانية ومبادئ المواطنة، وأن الحزب الذي لا يمتلك انحيازات ولا يدافع عنها أيضا، لا يمتلك مشروعا حقيقيا ولا يحوز منطلقات فكرية بمقتضاها يختلف عن الأحزاب الأخرى.

وفي حال تسليم العقل السياسي بأن الأحزاب الجديدة هي أحزاب مشاريع ومقترحات فقط، فإن ذلك يفتح الباب على مصراعيه لظاهرة الاستنساخ الحزبي والتماهي السياسي، وتصبح السياحة الحزبية أمرا عاديا ومستساغا، فلا فرق بين حزب في السلطة وآخر في المعارضة، بل يتحوّل سؤال الماهية والجدوى والقيمة من الأحزاب إلى سؤال مطروح للنقاش وبقوة.

فما الجدوى من أحزاب تتناسل الفشل والمقترحات والخطاب، وما القيمة من أحزاب تنكسر وقد تتلاشى ويصيبها “المغرم” بمجرّد وصول أصحابها إلى “المغنم”.

كاتب ومحلل سياسي تونسي

9