تونسيون يبيعون الخضار خلسة

الحكومة التونسية تؤكد أنها ستنظم توزيع الدقيق بالعدل بين الجهات والمناطق وستحد من احتكاره، لكن ذلك لم يحصل على أرض الواقع.
الجمعة 2020/04/17
الفول بسعر الغلال في أبريل

أثارت إجراءات الحجر الصحي ومنع الجولان للحد من انتشار فايروس كورونا في تونس فوضى أصبحت تهدد التونسيين في غذائهم، فصارت بعض المواد الأساسية تباع خلسة، كالخضار خاصة بعد إغلاق السوق عند منتصف النهار، كما باتت مادة الدقيق شحيحة بعد أن استولى عليها المحتكرون وهي التي تعتبر ضرورية لصناعة الخبز لأغلب الفقراء.

تونس - حين تمر من نهج لبنان في طريقك إلى سوق سيدي البحري في العاصمة التونسية بعد منتصف النهار، تجد كل البسطات والدكاكين التي تبيع الخضر والغلال وحتى الجزارين والبقاليات والمخابز مغلقة، لكن ذلك لا يعني أنك لا تستطيع أن تشتري ما تحتاجه بعد القرارات الحكومية بالتباعد الاجتماعي والتقليل من حركة الجولان، فزحمة الأقدام تزيد من مخاطر الإصابة بفايروس كورونا.

أمام محل يُعرف ببيع الغلال بأسعار يقول عنها التونسيون إنها أسعار صيدلية أيْ لا تحتمل النقاش، وهو مغلق أيضا، لكنك تجد لوحة كرتونية مكتوب عليها بيع الغلال، في حين أن كل الذين يرتادون السوق يعرفون أنه لبيع الغلال، بجانب اللوحة تجد شابا ناشطا إذا اقتربت منه يسألك، إن كنت تريد شيئا، ثم يدلف بك إلى باب العمارة المجاورة، يعطيك ما تحتاج من فراولة أو تفاح أو موز وحتى ليمون، ولن تعترض لأن المحل يعرف بأنه لا يسمح لزبائنه باختيار حبات البرتقال التي يريدونها مثلا.

الحقيقة أن الدكاكين التي تبيع المواد الأساسية الأخرى مغلقة ولا تبيع شيئا، لكنك حين تتقدم قليلا تجد محلا للخضار مغلقا هو أيضا، لكن بداخله صاحبه يمدك بما تشاء من خضار من كوة الباب، أي ما تحتاجه من بطاطا أو بصل أو بقدونس، تدفع وتغادر دون أن تناقش الأسعار ولا حتى جودة البضاعة.

وفي بعض الأنهج الفرعية المجاورة للسوق يمكن أن تجد بسطة خضار، كل الدكاكين مغلقة، لكن الخضار والغلال تباع خلسة أيضا.

البيع خلسة عبارة أضحكت عم الطاهر حارس المرآب الذي كان يشتكي لي من غلاء الأسعار، فلا يباع خلسة إلا الخمر في الأحياء الشعبية في العاصمة والمدن الأخرى خاصة تلك التي لا يباع فيها الخمر بشكل قانوني.

فوضى الأسواق الأسبوعية
غلاء الأسعار يربك الفقراء

في تونس ننتج الخمر ونبيعه في بعض المحلات المرخّص لها، ولكن في المدن الكبيرة فقط، ففي مدينة كالقيروان مثلا لا وجود لمغازة تبيعه، لذلك تنشط تجارته خلسة، حتى أنك لا تستغرب إن وجدت على الحائط في زنقة شعبية عبارة “هنا يباع الخمر خلسة” مكتوبة بخط رديء.

عم الطاهر الذي يعمل حارس مرآب بأجر زهيد، يقول، إن زوجته المريضة تستهلك راتبه في اقتناء الأدوية قبل أن تنتعش جيوبه بدفء النقود، احتار في أمره، فحين يتابع التلفزيون أو الراديو يسمع أسعارا رسمية في متناوله وحديثا عن بيع المنتجات الفلاحية من المنتج إلى المستهلك، سعر البطاطا (900 مليم) أي حوالي ربع دولار، وحين يذهب إلى سوق سيدي البحري القريب من عمله يجدها بـ(1500) أي قرابة نصف دولار.

يقول عم الطاهر، حين يجادل في أمر الأسعار المشطة عند بائع الخضر بأنها مضاعفة عما سمعه ورآه من أسعار في التلفزيون، يجيبه الخضار، فلتشتر من التلفزيون إذن.

عم الطاهر يخاف الجوع كما يخاف كورونا، ويقول إن كان الحجر تسبب في انفلات الأسعار فكيف سيكون الأمر في شهر رمضان؟ مضيفا أن في شهر أبريل يكثر الفول الأخضر ويصبح رخيصا، حتى أننا نسمي هذا الشهر بشهر الفول لكن سعره اليوم بدينار ونصف (نصف دولار).

بيع الخضار خلسة لا يتوقف عند المدن أو الأسواق الرئيسية، بل إن ذلك ينطبق على الأسواق الأسبوعية التي منعتها السلطات خوفا من انتشار كورونا، لكن تجّار الخضار يجدون أنفسهم مجبرين على العمل لكسب رزق عائلاتهم، فلا أحد يعطيهم كما يقولون.

حتى الإعانات التي تقدمها الحكومة في إطار التكافل الاجتماعي، يتكدس عليها الناس في مكاتب البريد وفي المكاتب الاجتماعية أكثر مما يتزاحمون في السوق.

الحاجة تجبرهم على فرش بسطاتهم بعيدا عن أعين المراقبة، ويعرفون كيف يجلبون زبائنهم، وكما يقول مبروك، وهو شيخ في السبعين امتهن تجارة الخضار منذ صغره إن زبائنه يعرفونه أين يكون، وإن لزم الأمر يبيعهم بضاعته في بيته، وإن تعذّر ذلك يذهب إلى بيوتهم.

مبروك الذي يناديه زبائنه بـ”التلفزة”، كنيته التي عرف بها منذ أن وصل هذا الجهاز بلونيه الأبيض والأسود إلى قريته النائية في محافظة القيروان، لأنه مرح لا تسمع إلا غناءه في السوق، يقول إنه لا بد أن يوفر قوته، كما يأخذ على عاتقه توفير الخضار للناس كي تعيش، حتى ولو كان الأمر خلسة.

ويضيف، “بيع الخمر خلسة في قريتي صار اليوم علنا ودون ترخيص تجده حيثما حللت، لذلك ليس عيبا أن نبيع للناس ما يأكلون”.

فوضى الأسواق الأسبوعية
فوضى الأسواق الأسبوعية

لا يشتكي مبروك من فرق المراقبة الأمنية التي تمنعه، ولكنه يعيب على السلطة غياب الحلول، متسائلا، “ماذا سيأكل المواطنون إذا منعونا من العمل، وماذا سنأكل نحن أيضا؟”.

حتى الدقيق الذي يصنع منه التونسيون الخبز في المنزل وتدعمه الدولة ليحصل عليه الفقراء، فيأكلونه مع الزيت وحبات زيتون مملح، صار يباع مثلما يباع القنب الهندي في بلدي، وليس مثل الخمر.

فالقنب يباع في بلدي ليس خلسة فقط بل يباع للمعارف وليس للأقارب، فلا يحصل غريب على شيء منه إذا لم يكن محل ثقة البائع.

مع الحجر الصحي تدافع الناس على المغازات والدكاكين لشراء مؤونتهم بكميات يعتقدون أنها ستحميهم في حجرهم إن قصر أو طال، لا يمكن أن تلوم الناس على جشعهم، فهم تكدسوا بدافع غريزي، إنها الحياة.

وقالت الحكومة، إنها ستنظم توزيع الدقيق بالعدل بين الجهات والمناطق وستحد من احتكاره، وسيحصل كل المواطنين على نصيب منه، لكنّ التونسيين على صفحاتهم في فيسبوك ما زالوا يتمنون حفنة من هذا الدقيق النادر، بعضهم يريده لصناعة الحلويات والتفنن فيها، وبعضهم الآخر لتعلم صناعة الخبز التقليدي.

والحقيقة، أن هذه الرغبة في الحصول على دقيق كان لا يشتريه إلا الفقراء ومتوسطو الحال من أصحاب العائلات وافرة العدد، يشتريه “الفيسبوكيون” أو يطالبون به ليس بدافع الجوع، وإنما للتسلية، فما هو إلا أداة لطبخ أشياء يقصّرون بها أيام الحجر التي بدأت تطول عليهم.

صار من يحتاج شراء الدقيق لإعداد كم كسرة لأطفاله، يحتاج أيضا لتكتيكات من يريد شراء قطعة من القنّب، يقصد الباحث عن الدقيق دكان مواد غذائية يعرفه، وعادة ما يكون زبونا عنده، وعليه أن يتأكد أن لا يكون معه غريب ولا حتى زبون آخر.

وإذا وجد أحدهم، فإنه ينتظر إلى أن يفرغ الدكان إلا من صاحبه، يشتري أشياء أخرى ربما لا يكون في حاجة إليها، وبعد ذلك يهمس له حاجته لبعض الدقيق، ليعود خائبا في أغلب الأحيان بعد وابل من القسم بالله والوالدين ومن مات من أهل الزبون وأهل صاحب الدكان.

حفنة من الدقيق لصناعة الخبز التقليدي
حفنة من الدقيق لصناعة الخبز التقليدي

 

20