توازن

يا للّغة ما أبهى قدرتها على خلق الفتنة. “وشاح الأرض”! ليس هذا وحده هو ما يلفت في الخبر الذي تتناقله المواقع العلمية هذه الأيام حول تأثير القمر والشمس على الفقاعة المحيطة بكوكبنا، بل بما يختبئ خلفه، بالقوى التي وصفها العلماء بأنها “غير متوازنة” والتي تلعب دورها في أوضاع ذلك الوشاح.
لن نذهب إلى هناك، حيث الحديث العلمي والصفائح ودراسات عالمة الجيوفيزياء آن إم هوفمايستر من جامعة واشنطن في سانت لويس، بل سنبقى عند فكرة القوى غير المتوازنة التي ننتظر منها أن تصنع توازنا في حياتنا.
ماذا يعني هذا؟ يعني أننا نعتمد على قواعد غير مضمونة للحصول على نتائج مضمونة في حياتنا، وهذا بأبسط منطق عقلي، نوع من العبث الوجودي عديم القيمة، لأن ما يجب أن يحصل مرتبط بما كان، والنتائج متصلة بالمقدمات دون أدنى شك.
لكننا نفعل هذا. سمّها المغامرة الإنسانية، ليكن. لكن تلك المغامرة غير قابلة للتطبيق في شؤون مصيرية، التعليم والصحة واستقرار الأسرة والمجتمع والحياة النفسية للأجيال.
مهلا. هناك خدعة في الأمر، فالمنطق الذي نتحدث عنه، أصغر بكثير من منطق الكون، ونيوتن كلّه والمبدأ الذي نطالب الطبيعة بأن تسير عليه ظهرا بعد نشوء الطبيعة، وليس من صلاحياتنا ونحن أبناء الطبيعة الأم أن نرغمها على السير وفق ما نستخلص ونتوهّم. ومادام العالم كله قائما على القوى غير المتوازنة، فلماذا لا يكون الصحيح هو الركون إلى تلك القوى ونسيان التوازن إلى الأبد، ومع قصة المقدمات والنتائج والفلسفات الأخرى؟
من هنا تأتي عبقرية الفنون، والتي يزدريها العلماء عادة، ويعتبرونها أقل شأنا من مساطرهم وبركاراتهم وأدوات قياسهم، فالفن الذي يخاطب الروح، هو قوة غير متوازنة، والخيال قوة غير متوازنة، الموسيقى قوة غير متوازنة حتى بعد أن أخذوا يضعون لها الحسابات الرياضية، بقيت أرقى قطعة موسيقية هي تلك التي لا تعتمد على المتواليات والتراتبية والتي تقودها العشوائية في النظم إلى عالم السحر.
تخيلوا عالما من الحسابات. سيكون عالما مملا. تخيلوا عالما من الهندسة الصارمة. سيكون عالما جافا بعيدا عن أريحية التكوين البرّي الذي جاء منه الإنسان. ولنتصوّر كيف يرى الصقر أو الثعلب العالم، عندها سندرك سرّ الطبيعة وقواها التي تعشق “عدم التوازن”.
وقبل أن نصل إلى اتفاق، عليك أن تعدني، عزيزي القارئ الحكيم، بأنك لن تخلط بين “عدم التوازن” و”الدوخة”، فالأول علاقة بين مؤثرات مختلفة، والثاني حال أنت أدرى بها، فلا تقل لي إنك سائر وفق دوخة لا أول لها ولا آخر، ثم تطلب أن تصل إلى غايتك.