تمدد إيران في أفريقيا يفرز أنماطا جديدة من الصراع الطائفي

بدأ تزايد النفوذ الإيراني في دول مثل كينيا وتنزانيا يقلق بعض الدوائر السياسية والاجتماعية، بعدما اتخذ مسارات ومظاهر دينية ملحوظة داعمة للتشدد. وتقوم طهران بذلك بطريقة تعتمد التناسق الكبير بين نشر مذهبها وبين توجهاتها الخارجية الرامية إلى تحقيق مكاسب أيديولوجية على حساب تماسك بعض المجتمعات الأفريقية، وهز القوة الصلبة في التكوينات المتعددة. وراكمت دورها حتى أصبح مؤثرا في الساحل الأفريقي الشرقي، ومنه تستطيع أن تمد بصرها إلى الداخل، كي تتحكم في بعض مفاتيحه السياسية.
نيروبي – من الصعوبة إخفاء صور النشاط الشيعي عن أنظار المسافر الذي يخطو أولى خطواته إلى أي بقعة تقع على سواحل كينيا وتنزانيا المطلة على المحيط الهندي. وتزايدت المساجد الشيعية فيها، وباتت تدوينات “يا حسين” تملأ حوائط الكثير من الشوارع والحارات والأزقة، حتى غطت بعض اللافتات جوانبها. كما تنتشر الفنون التراثية الإيرانية، بجوار الأعمال الأفريقية على الأرصفة وفي الأسواق المحلية.
ذهبت إلى مدينة مومباسا الساحلية، ثاني أكبر المدن الكينية بعد نيروبي، بدعوة لحضور حفل زفاف لصديق وزميل دراسة سابق في لندن. ثم تنقلت بين مدن أفريقية ساحلية عدة، مثل دار السلام وتونغا. وفي جميعها تكررت المظاهر الشيعية، ما يؤكد أن هناك نشاطا إيرانيا حثيثا في هذه المنطقة الحيوية.
تبدو الصورة للوهلة الأولى طبيعية. مد إيراني نابع من تواجد كثيف لجاليات شيعية تشاركت مع أخرى سنية في الإقامة داخل مدن ذات أغلبية مسيحية في مواجهة الساحل، بحكم الجغرافيا والتجارة. ومع كل احتكاك وتبحر في معرفة البيئة العامة تظهر صور مصنعة لم ينتجها امتداد ديني طبيعي، بل هو دعم سياسي ملموس وموجه.
قال محمد الموصلي مفتي مدينة مومباسا، وإمام أكبر وأقدم مسجد سني بالمدينة “سيكون من غير المنصف، إذا قلنا إن السكان المحليين من السنة والشيعة يعيشون في توافق تام على الساحل الأفريقي، فقد بدأ المشهد يتغير منذ عشرة أعوام تقريبا، لأن هناك سياسات وممارسات متقنة”.
وأوضح لـ”العرب”، “الأزمة ليست مقتصرة على المد الديني الشيعي، لكنها تقترن بنفوذ واسع لطهران ظهر فجأة مع إنشاء قنصلية إيرانية في مومباسا، ثم تبعه نشاط ثقافي ودعوات شيعية علنية لتعريف الناس بالمذهب الإثني عشري”.
مد وجزر عربي
ظل الساحل الشرقي المطل على المحيط الهندي منفصلا ثقافيا ودينيا عن محيطه الأفريقي الداخلي لفترات طويلة. وبرز الإسلام بقوة في تلك المنطقة في القرن الخامس عشر مع ظهور مناوشات بحرية بين قوات عُمانية وأخرى يمنية واجهت الزحف البرتغالي، تبعته تجارة واسعة ومشتركة مع مدن متعددة في كل من تنزانيا وكينيا والصومال والساحل الإثيوبي، قبل استقلال إريتريا عن إثيوبيا، وظل المد والجزر العربي سمة واضحة آنذاك.
مثّل الدور الإيراني ورعايته من أعلى المستويات في طهران نقطة تحول واضحة في شكل الشيعة داخل كينيا
أشار كتاب “تاريخ المسلمين في أفريقيا” لتقي الدين الدوري، إلى أن الظهور الأول للشيعة في أفريقيا كان مع التمدد الشيعي في اليمن مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتطلع لتحقيق المزيد من الرواج في مجال التجارة الخارجية، ما صنع أحياء كاملة يقطنها شيعة ظلوا في انحسار حتى منتصف القرن الماضي.
سمحت التوجهات اللينة التي تبناها الرئيس الكيني الأسبق غومو كينياتا، بمنح مساحة كبيرة للحريات الدينية، الأمر الذي مكّن المسلمين عموما من الانفتاح على غيرهم، وهي ثغرة بدأ الشيعة يستفيدون منها لاختراق المجتمع بناء على حسابات أيديولوجية محكمة.
مثّل الدور الإيراني ورعايته من أعلى المستويات في طهران نقطة تحول واضحة في شكل الشيعة داخل كينيا، مع موافقة حكومة نيروبي على ذلك، في ظل تمتعها بعلاقات اقتصادية قوية مع طهران، ورفضها الضمني للنشاط للحركي للسنة، احتجاجا على توغل الكثير من الصوماليين السنة، وما حملوه من تصورات عدائية لقطاع كبير من الكينيين.
ساعد تضخم حركة الشباب الصومالية المتشددة على مد بصرها ناحية كينيا وتطلعها إلى تنزانيا، والقيام بعمليات إرهابية في مومباسا ونيروبي والهجوم على بعض القرى القريبة من الحدود مع الصومال، والسعي المنظم لنشر التطرف بين صفوف المواطنين، وهذا التنظيم يتبنى العنف المؤسس على أفكار تنظيم القاعدة. منحت تدخلات حركة الشباب الصومالية المستمرة الفرصة لتسلل إيران إلى ساحل كينيا ومنه إلى العمق، بزعم أنها تتبنى أفكارا متسامحة، وأملا في استقطاب الرافضين لتوجهات حركة الشباب. وتعمدت طهران تغذية الميول العدائية لها، حتى بدت كأنها مدافعة عن كينيا ومتناغمة مع المواطنين في التصدي للتطرف، الأمر الذي سهّل مهمة نشر التشيع على أنه المقابل للتطرف السني.
علاوة على أن إيران عززت السياحة والتجارة في مدينة مومباسا، ما مكنها من الترويج لرؤيتها الشيعية عبر محافل مختلفة، وخلقت انطباعات إيجابية نحوها، ضاعفت من قدرتها على اختراق المجتمع رسميا وشعبيا.
زعم أحمد علي، وهو مرشد سياحي يعمل بالقرب من القلعة التاريخية للمدينة وتم اختياره لقيادة فوج سياحي متعدد الجنسيات، أن “النموذج الإيراني مذهل”، ولذلك يحرص في جولاته على الاهتمام بكل ما هو شيعي، من مراكز ومساجد في المدينة.
ينصح أحمد أفواجه من المسلمين بقراءة كتاب “ثم اهتديت” لكاتب تونسي اسمه محمد التيجاني السماوي، ويقدمه على أنه كتاب شارح لحياة المسلمين في أفريقيا، ثم يكتشف من يطلع عليه أنه يسرد حكاية إمام تحول من المذهب السني إلى الشيعي.
وتبرز في دار السلام المستشفيات والمطاعم والكتب والمراكز الشيعية بشكل أكثر وضوحا من مومباسا، وتتجاور الأعلام والفنون الإيرانية مع لوحات زيتية كتبت عليها كلمات تطلب المدد من الحسين وآل البيت على واجهات وداخل المباني المختلفة.
جاذبية سياسية وأمنية
يربط بعض المراقبين بين المظاهر الإيرانية في كل من مومباسا ودار السلام وبين التطورات الساخنة الجارية في اليمن، والتي بدأت نواتها منذ أكثر من عقد، لأن طهران تريد زيادة نفوذها على الضفة المقابلة، لتتمكن من التأثير السياسي والأمني على مفاصل الأحداث المتسارعة. الأمر الذي ينسجم مع سياسة تكتيل الأوراق التي تتبناها إيران للضغط على خصومها وتحقيق مزايا نوعية.
ويخشى هؤلاء أن يؤدي كثافة التواجد الإيراني إلى تواجد خشن، وتزدهر جماعات تتبنى الفكر الشيعي مستقبلا، وتتوالى الانقسامات في المجتمع، ثم تتحول إلى نزاعات سياسية، تساعد على التدخلات الخارجية، وتخرج كينيا من نموذجها المرن إلى آخر عنيف، وهي التي حرصت طوال السنوات الماضية على أن تكون بعيدة عما يجري في الصومال من أزمات، وسعت إلى التصدي لها مبكرا عبر التدخل العسكري، وعندما وجدت تأثيراته السلبية أشد وطأة تراجعت، لكن ذلك لم يبعد عنها شبح العنف الصومالي.
أشار الباحث السياسي الكيني آلبرت موبوانا، إلى أن مدن الساحل الشرقي لأفريقيا في كينيا وتنزانيا، تمثل ركيزة رئيسية للتغلغل الإيراني بأساليب متعددة، ومنها محاولة السيطرة على البيئة المحلية طائفيا عبر نشر المذهب الشيعي، وتمكين جماعة “الخوجة” الإثني عشرية من بسط نفوذها المعنوي، وتتمدد من تنزانيا إلى شرقي وجنوبي أفريقيا، وتتصرف تحت غطاء دعم المجتمعات الفقيرة.
وضعت إيران منذ عام 2011 لبنات أساسية لمشروعات تجارية متباينة لتعزيز النفوذ الطائفي التابع لها، وزودت المراكز الثقافية بكل ما تحتاجه من مساعدات مادية، مثل “الجمعية الجعفرية” ومدارس “آل البيت” في جنوبي كينيا وشمال بوروندي وملاوي، وتأسيس فرع لرابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية الإيرانية، وتنظم أسبوعا دوريا للصداقة الإيرانية- الكينية، مهمته تحسين صورة جمهورية إيران الإسلامية في الدولة والمجتمع الكيني.
أضاف موبوانا لـ”العرب”، أن الصراع التجاري البحري أو ما يسمى بالهوية التجارية، الذي افتعلته طهران مع بعض الدول العربية والغربية جعلها مؤخرا تبحث عن تطوير علاقاتها مع الدول الساحلية القريبة من خطوطها التجارية، والاستفادة منها في توفير حماية لناقلاتها أو استخدامها كغطاء لمرور سفنها البحرية في ظل تنامي نبرة فرض المزيد من العقوبات الغربية على طهران.
بدأ الاختراق الديني البراغماتي لطهران في إنتاج أنماط جديدة من الصراع السني- الشيعي في الساحل الأفريقي، خاصة مومباسا ودار السلام. ومع زيادة الهيمنة الشيعية باتت جماعات السنة أكثر توجسا، ما دفعها إلى الدخول في مواجهات فكرية واحتكاكات مباشرة من خلال مبارزات نظرية، والتوسع في طباعة الكتب التي تناهض المد الشيعي، مثل كتاب “الشيعة والسنة” لإحسان إلهي ظهير، و”مسألة التقريب بين الشيعة وأهل السنة”، لناصر القفاري، و”رسالة في الرد على الرافضة”، لمحمـد بن عبدالوهاب.
يقود الموقف العام إلى تصعيد حاد ومباشر، وقد يصنع بيئة في كل من كينيا وتنزانيا زاخرة بصراعات غير محدودة لم تكن موجودة من قبل، فالتشدد الديني، الشيعي والسني، ربما يفضي إلى العنف، الأمر الذي تجد فيه إيران فرصة للتوسع والتمدد وتكريس النفوذ.