تمثلات عاشق للكتاب في زمن الإنترنت

كنت مولعة عندما كنت طفلة حد الهوس بـ”كتاب في دقائق” و”كان يا مكان” و”روايات العروي”، وهي برامج عمد أصحابها إلى نقل بعض من القصص بأسلوب شيق يُرغّب في المطالعة.
ترعرعت محبة للكتاب ولا أظنني حين كنت أشاهد برنامج الباحثة التونسية ألفة يوسف “كتاب في دقائق” كنت أعي تماما فحوى ما تقدمه لكنني أحببت طريقتها في التقديم ورنّة صوتها الرصينة الهادئة فجلست أمام التلفزيون مقلدة حركاتها وسكناتها حد التماهي. فسكنت فيّ إلى درجة مقاطعتي اللعب مع أبناء الجيران واللهو مع إخوتي، فكنت أضع عددا من الوسائد فوق بعضها البعض وأجلب كتابا من كتب والدي وأحاول مطالعته بفكر متقد وعينين تبحثان بين الحروف عن صور توافق الدوال المبعثرة بين صفحات الكتاب الذي بين يدي.
في المقابل، كانت برامج “كان يا مكان” و”روايات العروي” مُوَجهة بعناية إلى شريحتين عمريتين من المجتمع. الأول كان يناسب سني الطفولي حينها أما الثاني فكان حمال أوجه ودلالات لا تتوافق إلا مع سن تمرست الحياة فكانت أمي خير جليس يساعدني على تمثل المغزى في كل مرة، لا سيما وأن ما يقدمه من حكايات تشابه إلى حد ما ما كانت تقصانه عليّ أمي وجدتي من قصص طبعت المخيال الشعبي العربي بطابع خيالي أسطوري لكنه أيضا يفوح في جزء منه بروائح الماضي والسلف ويبوح بأسرار تأريخية ضاربة في القدم تحمل تمثلات عن تقاليد وعوائد طُمس أغلبها واندثر.
لا أغالي إن قلت إن هذه الفقرات التلفزيونية سهلت عليّ التعلق والتعمق في القراءة وغذت فيّ الشغف بالمطالعة، فكنت أصرف جل وقتي بين قراءة الكتب ومتابعة برامج تثقيفية توعوية إلى جانب ما أسلفت ذكره. أحببت لعبة الأسئلة وشحذني حب التحدي برغبة جامحة في المعرفة ولم أكن أهدأ إلا متى وجدت الإجابة الشافية والكافية. كرهت السهل الممتنع فلم أكن أحفل بإجابة مقدمي البرامج ولا انتظرها من الأساس.
لذلك فإنني أبارك اليوم التطور التكنولوجي والتقدم العلمي والتقني. هنيئا للجيل الجديد بهذا الإنجاز العظيم. أصرفت في ذكر الأمس عمدا حتى يلامس البعض أهمية وجود سلسلات مبرمجة بهدف ترغيب الناشئة في القراءة وإرشادهم إلى ما يتناسب مع سنهم ودرجة وعيهم.
التكنولوجيا سلاح ذو حدين. سهلت عبر الولوج لمحركات البحث تحصيل معلومات جاهزة ومعلبة للاستهلاك دون عناء، لكنها أيضا ساعدت على فهم ما ظهر علينا من معان وتحميل ما صعب علينا
ساعدتني الفقرات التلفزيونية المنتقاة بعناية على فهم واستيعاب الوريقات التي مزقتها وشقيقاتي لاهيات ضاحكات وغضب أبي على كنوزه الثمينة لأيام وليال جاوزت حدود الزمان وصارت غصة في حلقي كلما رمقني عند ذكرها بنظراته المتحسرة.
ولا أرى التكنولوجيا اليوم إلا وعاء ثقافيا إلكترونيا ينفض الغبار عن رفوف الكتب ويجدد العهد مع خير جليس للأنام. الفرق بين الماضي والحاضر أن جيلي لم يكن يعرف من الأزرار إلا أزرار الريموت كنترول مبعثرة بين عدد لا يجاوز في أحيان كثيرة أصابع اليد الواحدة، أما اليوم فإن الأجيال الجديدة عقدت العزم على امتلاك كل ما يجود به عالم التكنولوجيا من أجهزة ذكية، ضاغطين على مقدرات أولياء أمورهم الشرائية، منصرفين بين جوال محمول ولوح وجهاز كمبيوتر، مفرقين بين مواقع مختلفة وموزعين بين تطبيقات متباينة، غير عابئين لا بالزمان ولا المكان من حولهم.
ولو تأمل أي منا اليوم حياته اليومية سيجد أنه يعايش روتينا متجددا يحمله على استهلاك جميع أدوات التقنية في آن ويزداد اعتماده عليها في كافة أحواله سواء بحث عن التواصل أو المعلومة أو التسلية. لذلك لا أعتقد أن ابتكار مواقع تحث على المطالعة وتبعث الروح في ذاك القارئ الذي ينأى بعيدا في دواخلنا هو أمر سلبي يقطع مع الكتاب الورقي لأن جل التطبيقات تقدم، شأنها شأن البرامج التي رافقتني في طفولتي وصباي، الدفع للبحث والقراءة والتساؤل والاستفسار.
ولا أنكر أن التكنولوجيا سلاح ذو حدين. سهلت عبر الولوج لمحركات البحث تحصيل معلومات جاهزة ومعلبة للاستهلاك دون عناء، لكنها أيضا ساعدت على فهم ما ظهر علينا من معان وتحميل ما صعب علينا إيجاده في المكتبات من كتب.
أمام نفور أبنائنا من القراءة فلا يعد الأمر مهمّا إن كنا نطالع كتابا ورقيا أو إلكترونيا، بل المهم أن نعيد القراء إلى الحياة من جديد. مهمة هذه التقنيات عسيرة والأشد عسرا مهمة العاملين بمنابر هذه المواقع، أصواتهم المداعبة لآذان مستمعيهم بما يروونه من روايات ووقائع وقصص إما أن تشد بقوة مستخدمي هذه المواقع وترغبهم في اقتناء تلك الكتب التي يطرحونها ويقدمون لمحة موجزة عنها وإما أن ينفروا ويقزموا الدور الذي يقومون به.
بالأمس كانت الخامة الصوتية لألفة يوسف وجلستها الرصينة ونظراتها الحالمة تأخذني بعيدا عن ألعابي وتصرفني عن صرخات أترابي راكضين لاهين في الحي، فهل أصوات هؤلاء اليوم قادرة على أن تركب التكنولوجيا، التي هي أحب للجيل الجديد من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، مطية لاستعادة قارئ الأمس الغيور؟ برأيي نعم لأن التكنولوجيا قد تقرّب بين مستخدميها ما باعده عنهم انشغالهم وظروفهم الحياتية.