"تماس".. ليلة من الحرب في بيت للأزياء تنتهي بقصة حب جديدة

مسرحية سورية تروي قصصا مؤلمة وتفتح نافذة للأمل.
الاثنين 2022/03/14
شخصيات مهزومة في حاجة إلى الأمل

قدم المسرح التجريبي، التابع لمديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة السورية، عرضا جديدا بعنوان “تماس”، ورغم أنه يحكي ما تعيشه شخصيات حقيقية في واقع حرب، فإنه يحاول أن يقول إنه ما زالت هنالك مساحة للحب. وقدم العرض على مسرح القباني على امتداد أحد عشر يوما محققا إقبالا جماهيريا كبيرا.

لا يعني الحب مكانا أو زمانا، فشرارته تولد حيث يشاء، وليس غريبا أن يكون في مساحة ضيقة وزمان نازف بالوجع والألم. هذا ما يمكن أن ننطلق منه في تناول المسرحية السورية الجديدة “تماس” تأليف وإخراج محمد سمير الطحان.

تبدأ المسرحية في بيت للأزياء حيث يعمل حسان، الفنان الذي تميز في فنه وصنع مع زوجته دارا للأزياء صارت الأشهر في المنطقة، قدم لها خلال سنوات الكثير من إبداعه وجهده وكان سببا في شهرتها، لكنه انكسر بعدها، إذ هربت زوجته مع أطفالهما إلى أوروبا بحثا عن مكان آمن من حرب مجنونة، فصار رجلا كسيرا يقتات ألما يعصف بداخله ويعيش صخب الحياة المدمرة بهدوء وحذر.

أما فرح ففتاة شغوفة بالحياة درست في الجامعة، وتعرفت على طبيب أحبته ووهبته ثقتها. لكنه غدر بها وسافر وتناسى مشروع زواجهما، فأجهضت جنينها، وصارت فتاة تبيع الجسد لكي تلبي احتياجاتها لإعالة نفسها وأمها المريضة، وتصير كسيرة بدورها وهي تعاني آلام الغدر والهجران، تدخل بيت الأزياء لكي تشتري فستانا، ولكن يبدو أن القدر قد هيأ لهما خطوا مختلفا في تلك الليلة.

تقع المنطقة في ساحة حرب وفي نقطة تماس بين فريقين، وما إن يحل المساء حتى يبدأ الفريقان قتالهما اليومي. وهذا ما يكون بعد لقاء فرح وحسان، فيحبسان في المكان ولا يتمكنان من الخروج، لتبدأ ليلة من الترقب والحذر، لا تلبث أن تتحول إلى مساحات من التقارب والبوح لتنتهي إلى عوالم جديدة تحمل حبا جمع بينهما.

في النص إيغال في تقديم ما هو أبعد من تصاعد درامي بين شخصيتين حبيستين في مكان واحد ساعة حرب. فهو يقدم من خلالهما تطويعات درامية لأشكال حياتية معاشة في المجتمع السوري خلال زمن الحرب، محاولا تسليط الضوء على معاناة الشرائح الاجتماعية التي يمثلانها.

الرسالة وصلت

العرض حاول أن يكون مرآة للإنسان السوري خلال الحرب إذ يسعى أن يرى كل مشاهد ذاته في تفصيل ما منه

قدم العرض مقولاته في تصاعد درامي، بدأ بطيئا هادئا لكنه سرعان ما تحول إلى حوار أسرع وأعنف، طرح مقولاته في مشهدية بصرية موفقة وضعها بكثير من الحساسية بسام الحميدي، إذ وظف لون الضوء وقوته خدمة لمعاني الحوار.

وفي مقاربته لتلك المعاني وما قصده من تقديم المسرحية الأولى له في المسرح التجريبي يقول محمد سمير الطحان مؤلف ومخرج العرض لـ”العرب”، “النص كان فيلما سينمائيا قصيرا ثم صار متوسط الطول لكنه لم يجد طريقا للإنتاج فحولته إلى نص مسرحي، لأنني لم أشأ أن تموت الفكرة، والكتابة للمسرح تختلف عنها للسينما، فأوجدته بما يتناسب مع المسرح وعوالمه”.

ويضيف “العرض لقطة من جو الحرب، ففي ظرف استثنائي، يجتمع رجل وامرأة من بيئتين مختلفتين ثقافيا واجتماعيا وماديا وفكريا، ويحبسان في مكان واحد، الذي هو دار للأزياء، بسبب اشتباك مسلح قريب، وهما لا يعلمان هل سيخرجان من هذا المكان حيين أم لا، وتنكشف قصة كل منهما للآخر خلال ساعات الليل. وفي بوح ذاتي لكل منهما يطرح الكلام الذي كان عالقا في نفسيهما، ويبدآن بالحديث عنه والفضفضة. الشخصيتان لا تمثلان نفسيهما، بل هما مثالان عن عدة شرائح اجتماعية سورية، ويمكن تحميلهما العديد من الإسقاطات والرمزيات لعدة حالات إنسانية اجتماعية”.

وعمّا قصده من حكاية المسرحية يتابع “حاولت من خلال الشخصيتين وحكاياهما رواية عدة قصص عن الحرب في سوريا. والقضية الكبرى تكون عندما تضطر المرأة لأن تبيع جسدها نتيجة الظروف القاسية التي تعيشها. فقدمت شيئا عن تبدل العلاقات الأخلاقية أثناء الحرب وعدم وجود خصوصية ومساحة أمان. طرحت كذلك موضوع البطالة والتحرش والخذلان والتخلي والغدر والخيانة بشكل متواتر بعيدا عن المباشرة”.

في النص إيغال في تقديم ما هو أبعد من تصاعد درامي بين شخصيتين محبوستين في مكان واحد

ويشدد مخرج العرض “حاولت أن أكون مرآة للإنسان السوري خلال فترة الحرب. كان هدفي أن يرى كل مشاهد للمسرحية ذاته في تفصيل ما منها. العرض امتداد لمشروع ثقافي أعمل عليه خلال سنوات الحرب، وهو رصد عوالم الإنسان السوري الداخلية زمن الحرب والتغيرات والتشوهات التي طرأت عليها. طرحنا العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة تساعد على بناء إنسان جديد ومستقبل جديد. وحاولت طرح فرجة مسرحية جديدة من خلال دمج الشاشة السينمائية بالخشبة”.

لم يكن تنفيذ الحلم المسرحي سهلا، بل صادف الكثير من المصاعب والمتاعب. يقول الطحان في ذلك “اختيار كادر العمل كان عملية صعبة. فكثيرون يهجرون المسرح إلى الدراما التلفزيونية والدوبلاج بسبب الوضع الاقتصادي السيء. أعتقد أني وفقت إلى حد إيجاد هذا الكادر، وتعاونت مع الجميع فلم أستأثر بالرأي ووافقت الجميع في آرائهم لتقديم شيء يهم الجمهور”.

ويتابع عن ردود الأفعال “كانت متفاوتة حسب السويات الثقافية والفكرية للجمهور. هنالك من توجه بالعرض إلى البنية المسرحية الأكاديمية وآخرون تفاعلوا مع الحكاية أو الرؤية والفرجة والأداء. أعتقد أن الرسالة وصلت ضمن الإمكانات الضعيفة المتاحة، وأطمح إلى أن أقدم العرض على خشبات المسارح العربية والمهرجانات الخارجية وكذلك في المحافظات السورية. العمل في الثقافة والفن هو ترياق أداوي به جروح نفسي وروحي وهو لا يحقق مكاسب مالية، نقوم به لنرضي جانب الشغف بالفن وسنبقى كذلك”.

لقاء مهزومين

في استحضار لروح فنان صنع مجدا ثم آل إلى حطام، يقدم محمد شما شخصية حسان بثقة، فهو ممثل يمتلك حضورا خاصا في أدائه، طوعه في مسرحية “تماس”، ليقدم العوالم الجوانية لشخصية مهزومة ترفض حينا خسائرها لتتمرد وتصرخ بانتظار أمل جديد. تعيش الشخصية تشظي لحظات هاربة من أتون الحرب لكنها تملك في الوقت ذاته مساحة للفن والحب.

يقول شما عن شخصية حسان “هي شخصية عانت من هزيمة وألم شديد على امتداد سنوات الحرب، هي فترة أرهقته بتفاصيلها عبر الفقد بكل أشكاله. فهو فقد أكثر ما يملك ماديا. واكتمل الفقد الأكبر بأولاده، بعد هروب زوجته بهم إلى برّ الأمان كما تعتقد. وعلى النقيض منها، هو يرى أن أمانه في وطنه وفي تفاصيله الخاصة، ويرى أن الأمان الحقيقي لأولاده بين أحضانه وأمام عينيه”.

ويضيف “شخصية حسان تشبه إلى حد كبير الكثير من الشخوص في الحياة الواقعية التي عاشها جل مجتمعنا السوري، فمنهم من فقد المال والعائلة، ومنهم من تكشفت لهم الحقائق عند الامتحان الصعب. عانى كثير من الناس في مجتمعنا من موضوع التخلي والهروب إلى الأمام بذريعة الخلاص الشخصي. دون النظر إلى أي تفاصيل ترتبط بالآخرين. فلاحظنا حالات من التفكك الأسري لم نكن تتوقعها وكانت مفاجأة كبرى للكثير من الأشخاص”.

في النص إيغال في تقديم ما هو أبعد من تصاعد درامي بين شخصيتين حبيستين في مكان واحد ساعة حرب

ويتابع شما في توصيف شخصية حسان نفسيا “هو ليس الإنسان المهزوم مطلقا، إنما يمتلك الكثير من القوة والصبر الذي يتجلى بجبروته وتحمله لكل ما آلت إليه الأمور، لكنه كان يحتاج إلى بارقة أمل تخرجه من حالة الانعزال التام عن البشر وتفاصيلهم إلى أن التقى بتلك الفتاة البريئة والتي تعرضت لبراثن المجتمع والحرب. فكانت بارقة أمل للخلاص، وكان البوح ذا تأثير عال بينهما إلى حد الطهر والخلاص، لكنه يبقى أسيرا لتفاصيل تمنعه من الاقتراب أكثر، فيترك الأمور والخيار للموقف الذي يستطيع أن يتعامل معه بكل صدق”.

وعلى الجانب المقابل تكون شخصية فرح، التي عانت من أذى نفسي عميق، كان أوله من حبيب مفترض، ثم من مجتمع أثقل عليها المواجع.

تقول عبير البيطار لـ”العرب” عن شخصية فرح التي أدتها “هي صبية عشرينية تخربت بعض تفاصيل حياتها بسبب الحرب، درست في الجامعة رغم ظروف الأسرة الطاحنة، وفشلت في إيجاد فرصة عمل، فتطوعت مع منظمات إنسانية لتساعد في أعمال الطبابة، وهناك تتعرف على طبيب، كان لها الحب وكانت له نزوة، رحل عنها بقسوة تاركا إياها في مواجهة مصير مأزوم”.

وتضيف “عملت فرح سكرتيرة في شركة غير محترمة، هناك تتعرض للتحرش  يوميا، وهي تعيل والدتها المريضة التي تحتاج إلى جراحة في القلب، وأمام ضغط الحاجة، تبيع جسدها، لتحصل على المال وتساعد حالها وأمها في آن واحد. لكن صدفة من القدر، أن تحبس مع حسان في دار الأزياء في ليلة ما بسبب الحرب، وخلال هذا الزمن يستفزها لما يجول بداخله من بوح لتدخل فرح معه في لعبة البوح تلك”.

وتتابع البيطار أنه “في صباح اليوم التالي تهدأ الحرب وتصير أمام أحد خيارين، فإما أن تبقى مع حسان صاحب دار الأزياء المهزوم داخليا بعد أن احتضنها بثوب زفاف أبيض وإما تغادر المكان للمزاد العلني المشرع لبيع الأجساد. ومن يعلم ربما تعود للعب في أزقة ودهاليز الحياة من جديد. وقد تخبئ لها الحياة مفاجآت أخرى جديدة”.

13