تلك الـx

يُضحك المفكر الشهير تيري مور مدير مؤسسة “راديوس” لاستكشاف وجهات النظر الثاقبة في كل الظواهر، مستمعيه المندهشين، حين يسرد لهم على منصة “تيد” كيف غيرت اللغة العربية وجه العلوم في أوروبا. كلمة واحدة كان صعباً على الأوروبيين نطقها، عُقدت من أجلها ندوات ومؤتمرات للعلماء والمفكرين للبحث في مرادف لاتيني مناسب لمعناها ومبناها معاً. لم تكن تعبّر عن شكلها فقط، بل عن معناها الفلسفي الذي يحتاج إلى ذهنية جديدة لتصوّره. إنها كلمة “شيء” التي تعني حين ترد في العلوم العربية القديمة “مجهول” “نكرة” أو “غير معيّن”. غير أن تلك الكلمة لم تكن تعني حرفياً ما يمكن أن تُترجَم إليه في الإنجليزية أو الإسبانية التي نقلتها أول مرة في الأندلس. فـ“لا شيء” الإنجليزية لا تعني “شيء”. ولو كان في الإسبانية حرف “شين” لما تعقّد الأمر إلى هذه الدرجة، ولتم نقل الكلمة عن العربية كما هي، لكن غياب ذلك الصوت أعجز الأوروبيين عن العثور على قرينه، فلاذوا باللاتينية لتعوضهم عن لفظ الشين في بداية كلمة “شيء” ولم يجدوا سوى الحرف x الذي بات اليوم رمزاً عالمياً يفهمه مليارات البشر مهما كانت لغاتهم، ويعني “مجهول”.
وقد قرأت مرة كتابا لافتاً عن التنمية للأكاديمي القدير ناصر يوسف عنوانه “مسالك التنمية المركبة” يقارن ما بين النموذج الياباني والنموذج المستقبلي العربي في هذا الحقل، حينها لجأ إلى نظرية “الشيء” عند الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ليحاول فهم كيف يفكر العرب تنموياً.
يعتبر العلماء أن “الشيء” في التنمية هو “الموارد” بينما تفهمه السلطات بمعنى آخر تماماً. وهي ترى أن ذلك الشيء هو “النخبة”. وهكذا ينتج بينهما معنيان مختلفان تماماً، وينقض كل منهما على هدف مختلف. “الشيء” يعد واحداً من أهم مسالك السلطة، وكلما تراكم “الشيء” تراكم الفساد، وانسدت دروب الحلول وأصيبت السلطة بالتعنت أكثر. السلطة بلا “شيء” هي سلطة ضعيفة، والدولة بلا “شيء” هي دولة فاشلة. السلطة تمتلك “الشيء” وترى أنها الأحق بإدارته، بينما يرى الناس أن ذلك “الشيء” هو ملك عام يحق لهم المشاركة في تقرير مصيره.
ولو أن مور ويوسف ذهبا بأفكارهما التي تجترح الجديد من تفسير الظواهر أبعد قليلاً، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي مر قبل نهارين واطلعا على قصيدة أبي تمام التي يقول فيها “فاضَ اللثامُ وغاضتِ الأحسابُ/ واجتُثتِ العلياءُ والآدابُ/ هَبْ مَنْ له شيءٌ يُريدُ حجابَه/ ما بالُ لا شيءٍ عليه حجابُ؟” لوضعا نظرية جديدة لذلك الشيء العربي الذي عناه أبو تمام ولم يفسّره. ربما. من يدري؟