تلاميذ تونس خط أحمر لم تحترمه نقابة التعليم

كيف لهؤلاء الذين يدعون أنهم نقابيون "أن تأخذهم العزة بالإثم" فيعلقون مطالبهم بمصائر التلاميذ ويتجرؤون على قطاع التعليم الذي يعتبر خطا أحمر، ومن مقومات سيادة الدولة، أيّ دولة.
السبت 2023/08/12
إلا التعليم

أحيت تونس منذ أيام قليلة “يوم العلم “، وهو حدث سنوي يوزع فيه رئيس الجمهورية الجوائز المقدمة من الحكومة لأفضل المتفوقين من التلاميذ والطلبة.

الحبيب بورقيبة هو الذي أرسى هذا التقليد، بداية تخريج الدفعات الأولى في المدارس والجامعات بعد الاستقلال والشروع في بناء الدولة الوطنية في ما يسميه الزعيم التونسي بـ”الجهاد الأكبر”.

ولا تزال احتفالية “يوم العلم” تقليدا سنويا بارزا تقام مراسمه في قصر قرطاج، عند مواسم الحصاد، وما تعنيه هذه الكلمة من رمزية.

لكن الحصاد الزراعي والتربوي، هذا العام، كان هزيلا ومخيبا للآمال بسبب انحباس الأمطار فوق الأراضي الزراعية، وكذلك “انحباس” نتائج الاختبارات المدرسية في أدراج المعلمين، بسبب تعنت نقابتهم وإصرارها على أخذ التلاميذ رهينة مقابل مطالب مسفة تخص الزيادة في الأجور.

أمر مؤسف أن يعطّل أبناء المدرسة التونسية من جيل بورقيبة ومن جاء بعده، الجيل الجديد من أبناء المدرسة الحالية، ويحرمونهم وأهاليهم فرحة العطلة والاحتفال بالنجاح.

العشرية الماضية وقع سفحها لتهشيم الدولة وإضعاف مؤسساتها، بما في ذلك تلك التعيينات الحزبية التي مارستها حركة النهضة في قطاع التعليم نفسه

غصة أخرى تمكث على صدور التونسيين فوق غلاء المعيشة وشطط الأسعار وتفاقم الأزمات بفعل المتلاعبين بلقمة الشعب من سماسرة وفاسدين فرّختهم العشرية السوداء التي أدارها الإسلاميون بـ”فشل لا يضاهى”.

النقابة التي تدّعي حماية حقوق بناة الأجيال، أصبحت تحرض على هدم ما بنته الأجيال عبر الانخراط في ما يرقى للجريمة، وهو تعطيل التعليم والتهديد بسنة دراسية بيضاء تذهب فيها كل الجهود هباء منثورا.

هل هكذا تورد الإبل يا معشر الذين تصرف عليهم الدولة من الخزينة العامة وأموال الشعب؟ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

ذوقوا إذن، جزيل ما أقدمتم عليه من تعريض مصائر التلاميذ إلى الإتلاف، وها هي الحكومة ترد عليكم بتعليق دفع رواتب 17 ألف معلم وأقالت 350 مدير مدرسة كـ”درس تأديبي أوّلي” والبقية تأتي كما يقولون.

دقت ساعة العمل الجاد والمسؤول في تونس بعد 25 يوليو 2021، ولا مجال بعد هذا التاريخ، للتلاعب بمصير البلاد وطاقتها الحيوية المتمثلة في ثروتها البشرية الكامنة في مستقبل هؤلاء التلاميذ.

وها هو الرئيس قيس سعيد، يؤكد للسلك التعليمي في نفس احتفالية “يوم العلم”، ومن نفس فضاء قصر قرطاج الرئاسي بأنه لم يضيع البوصلة، حين قال في حزم “المعلمون والأساتذة أشرف من يبني العقول والأنفس، والتلاميذ والطلبة أمانة في أياديكم، ولا يمكن القبول في المستقبل بما حصل في السنوات الماضية من حجب لنتائج الاختبارات، ولا يمكن أن يتحول من أنتم مؤتمنون عليه إلى رهائن”.

يتساءل مراقبون ومحللون في تونس: كيف لهؤلاء الذين يدّعون أنهم نقابيون “أن تأخذهم العزة بالإثم” فيعلقون مطالبهم بمصائر التلاميذ ويتجرؤون على قطاع التعليم في سابقة تاريخية، والذي يعتبر خطا أحمر، ومن مقومات سيادة الدولة، أيّ دولة.

لم يحدث هذا التجاوز في أيّ بلد غربي مهما كانت ديمقراطيته، ومهما نشطت فيه النقابات وتعاظمت طلباتها، لذلك اجتمعت العائلات التونسية على نبذ هذه الخطوة التي ترتقي إلى مصاف الجريمة وإدانتها.

متى تعلم النقابة المعنية في تونس أن السلك التعليمي ليس قطاعا ترفيهيا، وأن إضراب المدرسين ليس كمثل إضراب كتاب السيناريو في هوليوود مثلا.. ومع ذلك لم يخضع تحالف منتجي السينما والتلفزيون لكل مطالبهم في مايو الماضي.

النقابة التي تدّعي حماية حقوق بناة الأجيال، أصبحت تحرض على هدم ما بنته الأجيال عبر الانخراط في ما يرقى للجريمة، وهو تعطيل التعليم والتهديد بسنة دراسية بيضاء

السؤال الذي يطرح: من أين جاء هذا التطاول وهذا الاستقواء على الدولة؟ الجواب جاء على لسان وزير التربية محمد علي البوغديري، حين قال “عدم حصول التلاميذ على الأعداد المدرسية كارثة وجريمة في الحق أبناء الشعب التونسي” مضيفا “من يتخيل أن السلطة ضعيفة فهو واهم”.

هل صار التذكير بهيبة الدولة وقوتها أمرا لا بد منه مع كل “تطاول نقابي” من هذا النوع؟

السبب هو أن العشرية الماضية وقع سفحها لتهشيم الدولة وإضعاف مؤسساتها، بما في ذلك تلك التعيينات الحزبية التي مارستها حركة النهضة في قطاع التعليم نفسه.

هذا التسميم المقصود لقطاع التعليم في تونس ظهر على شكل أساليب مختلفة من بينها الشهادات المزوّرة التي مازالت فضيحتها تجوب الآفاق، ويُنتظر أن تتخذ السلطات المختصة إجراءات في حق هؤلاء.

هذا بالإضافة إلى تجاوزات كثيرة أخرى بدأت بالتعيينات العشوائية وانتهت بسلوكيات تمس بمدنية الدولة وتسيء لسمعة المدرسين على قاعدة أن العملة الرديئة تطرد الجيدة.

ما كان في الأمس البعيد، نعيما على الدولة ومصدرا لغناها الفكري والثقافي وسببا في حركية المجتمع مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، ودوره النضالي في الفترة الاستعمارية، أصبح اليوم، ومع البعض من قياداته، مصدرا للقلاقل وسببا في تعطيل عجلة التنمية.

هذه حقيقة ينبغي الاعتراف بها دون مواربة أو “تغطية الشمس بالغربال” كما يقال، لذلك ينبغي للسلطات التونسية أن تعيد النظر في ما كان يعتبره الاتحاد من المحظورات، وهو عدم التعرض بالنقد للمنظمة العريقة.. ولكن مستقبل أجيال تونس أهم من ماضيها.. أليس كذلك أيها الزعماء النقابيون؟

9