تكتيكات روسية سورية تستعيد إدلب على مراحل

تعكس سيطرة قوات النظام السوري على منطقة سراقب نقطة تحول في استراتيجية دمشق – موسكو للسيطرة على محافظة إدلب عبر مراحل، فباستعادة سراقب تكون قوات النظام قد مضت بعيدا في بسط سيطرتها على جيب إدلب وسط عجز تركي عن منع ما يبدو أنه خاتمة للحرب السورية التركية التي تخوضها أنقرة عبر فصائل المعارضة السورية والجماعات الجهادية.
دمشق - سيطر الجيش السوري السبت، على كامل مدينة سراقب التي تشكل نقطة التقاء بين طريقين دوليين يربطان مناطق عدة، في محافظة إدلب في شمال غرب البلاد، فيما يجد آخر المقاتلين في المنطقة أنفسهم أمام خيارات محدودة رغم المساعي التركية لإنقاذهم.
وتحظى مدينة سراقب في ريف إدلب الجنوبي الشرقي بأهمية استراتيجية لأنها تشكل نقطة التقاء بين طريق الـ“إم -5”، والطريق الدولي المعروف بـ“إم -4” والذي يربط محافظة حلب بإدلب ثم اللاذقية غرباً.
ويرى مدير قسم الشرق الأوسط في معهد دراسات الحرب نيكولاس هيراس أن “تصعيد قوات النظام في إدلب يتم بموجب ضوء أخضر روسي لإجبار تركيا على نزع سلاح هيئة تحرير الشام وحلفائها مقابل تعهد بوقف الأعمال العدائية”.
وواضح أن تركيا تحاول تحييد روسيا عن الصراع الدائر مع أنها تعلم باستحالة ذلك حيث أن عملية إدلب تجري بتخطيط ودعم لا محدود من موسكو.
ويعتبر محللون أن إدلب تشكّل اختبارا مرا للجانبين الروسي والتركي وهما مضطران لخوضه، فإمّا أن يؤسس لمرحلة جديدة من التعاون وهذا يبدو صعبا وإما أنه سيقود إلى تصادم بينهما، تنتظره أطراف كثيرة.
ولا يعرف بعد إلى أيّ مدى ستأخذ عملية كسر العظام الجارية، ومن الطرف الذي سيرفع “الراية البيضاء”، بيد أن الثابت أن عملية العودة إلى ما قبل التصعيد الحالي غير واردة، حيث أن روسيا تعتبر أن انتزاع إدلب من الجماعات الجهادية التي تسيطر عليها أمر مفروغ منه، وأنه لا يمكن الانتقال إلى عملية سياسية دون حسم المسألة.
وتستشرس دمشق في الوقت الراهن لاستعادة طريق الـ“إم -5” الاستراتيجي الذي يربط محافظة حلب بدمشق، ويتفرع منه طريق ثان يربط محافظة اللاذقية بإدلب. وقد سيطرت الجمعة على جزء كبير منه.
ويؤكّد رئيس تحرير صحيفة “الوطن” السورية المقربة من السلطات وضاح عبدربه أن “إبقاء أيّ منطقة تحت الاحتلال الإرهابي أو التركي غير وارد”، لكنه لا يستبعد في الوقت ذاته أن يحصل ذلك على مراحل.
ويقول عبدربه “بعد فتح الطريقين الدوليين، لا بدّ من التقدم وتحرير كامل المحافظة، شاءت تركيا أم أبت”.
وفي انتظار المضي في “تحرير” إدلب، يقول عبدربه إنه سيتم “فتح المجال لمن يريد أن يستسلم أو أن يجري تسوية حقناً للدماء”. أما المقاتلون الأجانب “فلا خيار أمامهم سوى الاستسلام والمحاكمة أمام القضاء السوري أو الهروب والعودة من حيث أتوا، أي تركيا”.
انفراط عقد الجهاديين
يرى الباحث في الشأن السوري سامويل راماني أنّ مواصلة قوات النظام تقدّمها “تعتمد على ما إذا كان الجيش السوري سيواجه مقاومة شديدة من القوات التركية” أم لا. ويضيف “إذا كان الأمر كذلك، فقد يرغب الأسد في تجميد النزاع مؤقتاً ثم إعادة تصعيده”.
وتكتسب منطقة إدلب أهميتها من كونها المعقل الأخير لمعارضي الأسد، إذ أن نصف القاطنين فيها نازحون من محافظات أخرى، وضمنهم مقاتلون معارضون غادروا مناطقهم إثر اتفاقات إجلاء أعقبت هجمات واسعة لقوات النظام. ويبلغ عدد مقاتلي الفصائل المعارضة في إدلب حوالى ثلاثين ألفا، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وعشرين ألفا من هيئة تحرير الشام والفصائل الجهادية.
والمحافظة ومحيطها مشمولان باتفاق أبرمته روسيا، أبرز حلفاء دمشق، وتركيا الداعمة للفصائل المعارضة في سوتشي في سبتمبر 2018، ونص على إقامة منطقة منزوعة السلاح تفصل بين مواقع سيطرة قوات النظام والفصائل.
ونصّ الاتفاق على فتح طريقين دوليين، تسيطر الفصائل على أجزاء منهما، يمران عبر إدلب ويربطان محافظات عدّة ببعضها قبل نهاية عام 2018. وتراجع التوتر لبعض الوقت بعد توقيع الاتفاق، لكن لم تحصل أي انسحابات لمقاتلي هيئة تحرير الشام، فيما استأنفت دمشق هجماتها على مراحل، وتمكّنت من قضم مناطق واسعة.
ومنذ ديسمبر الماضي، نزح أكثر من نصف مليون شخص وفق الأمم المتحدة جراء تصعيد قوات النظام عملياتها بدعم روسي في مناطق في إدلب وجوارها واقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وحلفائها وتؤوي أكثر من ثلاثة ملايين شخص. وقد نجحت في التقدم والسيطرة على بلدات ومدن عدّة.
وتخشى تركيا التي تستضيف حاليا أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري، تدفّق موجات جديدة من النازحين إلى أراضيها، فتغلق حاليا حدودها بإحكام.
ويقول راماني “قد تكون إقامة منطقة عازلة جديدة في إدلب الخيار الأكثر ترجيحاً، لكن من غير الواضح ما إذا كانت تركيا ستمضي في ذلك حتى النهاية”.
ويرى أن استمرار دعم أنقرة للمقاتلين سيمكّنهم من الصمود، وتخليها عنهم يعني أن “مستقبلهم سيكون أكثر غموضا”.
ويخلص الى القول “قد ينضم بعض السوريين إلى تركيا كمقاتلين أجانب لكن معظمهم، إما سيكونون تحت رحمة قوات الأسد، أو سيواجهون الحياة كنازحين أو لاجئين”.
اقتراب الحسم
أعلن الجيش التركي الجمعة، أنه لا يعتزم الانسحاب من نقاط المراقبة في إدلب رغم خسارة ميليشياته لسراقب. وتصرّ أنقرة على التدخل في سوريا رغم تمكن قوات النظام من تحقيق تقدم ميداني هام في الفترة الأخيرة على حساب الجماعات المسلحة.
وحذر الرئيس التركي الحكومة السورية من أنه ستكون هناك تداعيات لأيّ هجمات جديدة. وطالب أيضاً بانسحاب قوات الحكومة السورية إلى أماكن تمركزها السابقة أمام نقاط المراقبة التابعة للجيش التركي، والتي كانت القوات السورية قد تجاوزتها خلال تقدمها في الآونة الأخيرة.
ولا توجد تقديرات دقيقة لعدد القوات التركية في سوريا، خاصة وأن الحدود السورية مفتوحة للجيش التركي في مناطق كثيرة، والقوافل العسكرية متواصلة في الدخول إلى نقاط المراقبة التي لم تضطلع بدور يُذكر لمصلحة الفصائل السورية المسلحة التي تتبع الاستخبارات التركية.
وكانت أنقرة بدأت في نوفمبر 2017 إقامة نقاط المراقبة في إدلب في إطار اتفاق أبرمته مع روسيا وإيران في أستانة عاصمة كازاخستان في سبتمبر 2017.
ولم تكن تركيا قادرة على إدخال جنودها وإقامة تلك النقاط دون الحصول على موافقة الطرف الذي يسيطر على الأرض هناك وهو “هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد الشام”، حيث كان مقاتلوها يرافقون الضباط الأتراك عند القيام بمهام الاستطلاع لإقامة النقاط.
ويُظهر تقدم قوات النظام السوري في إدلب الموقف الصعب الذي تقف فيه تركيا. وفي مواجهة الهجوم، يقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام خيارين، إما أن يتعهد بإرسال مزيد من القوات ويستمر في القتال، أو أن يقف دون تحرك ويقبل بذلّ الهزيمة على يد الأسد وحلفائه، والتي قد تتسبب في نزوح الملايين من اللاجئين إلى تركيا.وتبدو جميع الخيارات الأخرى غير متاحة؛ فنقاط التفتيش التابعة للجيش التركي، التي اتفقت عليها تركيا وروسيا في سبتمبر 2018، والبالغ عددها 12 نقطة، لا تحقق الردع للحكومة السورية بأيّ حال من الأحوال. وما زال الأسد مصرّاً على استعادة آخر منطقة كبرى في سوريا التي لا تزال تحت سيطرة المسلحين، خارج الشمال الشرقي.
و يرى مراقبون أنه ما لم يدخل الجيش التركي إلى مدينة إدلب على نطاق أكبر بكثير، ويضم أجزاء منها بشكل مؤثر على غرار ما حدث في عفرين وحلب في شمالي سوريا والمنطقة العازلة الجديدة في شمال شرقي البلاد، فإن الأسد سيسيطر على المنطقة لا محالة.
وستتأثر تركيا أيضاً بشكل مباشر، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكنه تقديم بعض المعالجات في الأجل القصير، لكنه لن يُخرج أردوغان من هذه الفوضى.
ويقول الخبير في الشأن الروسي، كريم هاص “لقد أصبح سقوط إدلب أمرًا حتميا لا مفرّ منه، وبعدها سيأتي الدور على عفرين أيضا. وبمجرد أن تغلق روسيا المجال الجوي في عفرين، فإن ميزان القوى هناك سيتغير حتما”.