تقسيم إداري رهن حماية المسؤول المحلي الجزائري

ألمح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، خلال زيارته مؤخرا إلى محافظة تيزي وزو، إلى أن مراجعة واسعة ستشمل خارطة التقسيم الإداري للبلاد، لأسباب ودواع اقتصادية واجتماعية، بعدما أثبتت التجارب السابقة أنها لم تراع الشروط والمعايير التي تجعل من البلدية ومن المحافظة كائنا اقتصاديا واجتماعيا يكفل التنمية ويرقي الخدمات العمومية بشكل آلي ودون انتظار التحويلات المالية المركزية.
وارتبط التقسيم الإداري الذي عرفته البلاد منذ الاستقلال بحسابات سوسيولوجية وثقافية، من أجل خلق توازن ديموغرافي محلي يضمن للسلطة عدم وصول السكان إلى موقف موحد أو شامل تجاه أيّ قضية معينة، ولذلك تم اللجوء إلى خلق محافظات جديدة أو إعادة رسم الخريطة بشكل يندمج فيه الحد الممكن من المكونات والإثنيات، خاصة في الربوع التي يغلب عليها المكون الأمازيغي، كما هو الشأن في منطقة القبائل بشمال البلاد، أو الإباضيين بوسط الصحراء، وحتى الطوارق في أقصى الجنوب.
وتكون القطيعة السياسية بين السلطة ومنطقة القبائل، خاصة خلال الخمس سنوات الأخيرة، حيث أفرزت بيانات صفر مشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، مؤشرا خطيرا على انعزال المنطقة عن جسد الدولة الأم، مما فسح المجال أمام المناورين ودعاة الانفصال إلى التذرع بذلك أمام الرأي العام الدولي، وهو دافع قوي للسلطة من أجل مراجعة الخريطة الإدارية بشكل يجعل تأثير الموقف السياسي والثقافي أمرا نسبيا، ما دام هناك في نفس التقسيم من هو قابل للتعاطي مع أجندة السلطة.
صحيح أن الفساد نخر جسد الدولة في سنوات مضت، لكن المساءلة يجب ألاّ تكون حاجزا أمام حرية المبادرة للمسؤولين والمنتخبين المحليين، لتحويل إقليمهم إلى ماكنة لصناعة الثروة
ويكون التقسيم الإداري للعام 1984، قد حقق هدف كسر المواقف السياسية والثقافية واللغوية المغلفة بحدود جغرافية، بعدما رفع عدد المحافظات من 31 إلى 48، وأعاد رسم الحدود الجغرافية بين المحافظات والبلديات، سواء في الشمال أو الجنوب، لكن السلطة عازمة على المضي أكثر في كسر الانصهار السياسي والجغرافي، بالتلميح إلى مراجعة جديدة سترفع من عدد المحافظات والبلديات إلى الضعف.
مبررات الرئيس الجزائري في حديثه مع ممثلي المجتمع المدني والأعيان في مدينة تيزي وزو تمحورت حول الإمكانيات والموارد المالية للبلدية باعتبارها الواجهة الأولى للدولة، وأن وجود أكثر من 800 بلدية من مجموع أكثر من 1500 بلدية في حالة إفلاس وعجز عن دفع راتب عامل واحد، والاتكال الكلي على التحويلات المركزية يدعو إلى ضرورة فتح الملف في المستقبل.
ومنذ العام 1997، مع استحداث محافظة الجزائر الكبرى (العاصمة) بدأ الارتباك في وضع خريطة إدارية عقلانية، تخضع للمعايير المعلنة وغير المعلنة، لاسيما بعد تحولها في السنوات الأخيرة إلى خطاب سياسي شعبوي من أجل إرضاء مطالب السكان، فاستحدثت المحافظات المنتدبة، وهي أقاليم في وضع محافظة لكنها تقع تحت وصاية المحافظة الأم، كما استحدثت محافظات جديدة حيث صار تعدادها الكلي 58 محافظة، وينتظر المضي في نفس النسق بحسب تلميحات الرئيس تبون.
وبغض النظر عن دواعي التوازن السياسي والاجتماعي، فإن المعايير في ترقية بعض المدن تبقى غامضة، وخلقت نوعا من الحساسية الجهوية بين السكان، وذهبت تعاليق البعض إلى أن الأمر يخضع لدوائر الضغط والنفوذ التي تفصّل ثوب المحافظة لمدينة أو منطقة ما، خاصة وأن الاعتقاد السائد هو أن المسألة ترتبط بتوزيع الريع والاستعداد للاستفادة منه تحت أيّ مسمى، حتى ولو كان موظفا أو حاجبا في أبسط إدارة.
دستور البلاد يلمّح إلى تقسيم جهوي يستند إلى المقومات الذاتية، وقبله طرح سياسيون النظام الفيدرالي، لكن هاجس الوحدة الوطنية التي افتكت بفاتورة باهظة، تجعل الجزائريين غير مستعدين للمغامرة بمثل هذه الطروحات
دستور البلاد يلمّح إلى تقسيم جهوي يستند إلى المقومات الذاتية، وقبله طرح سياسيون النظام الفيدرالي، لكن هاجس الوحدة الوطنية التي افتكت بفاتورة باهظة، تجعل الجزائريين غير مستعدين للمغامرة بمثل هذه الطروحات، لكن مسألة المقومات الاقتصادية والموارد المحلية تبقى فاصلا مهما في التوازن الجهوي والتنمية الشاملة، خاصة وأن التقسيمات السابقة خلقت تمييزا بين ربوع البلاد، فهناك محافظات وبلديات فقيرة، ينعكس فقرها على حياة السكان وعلى نوعية الخدمات والمرافق، وهناك محافظات وبلديات غنية على الفوارق الظاهرة يعشش فيها الفساد.
هناك تقسيم إداري وقانون للمحافظات والبلديات، أفرز تناقضات صارخة، تدعو الى مراجعة علمية دقيقة، لأنه من غير المعقول أن تكون بلدية حاسي مسعود على هذا الوجه من التخلف، وهي تحتضن الشركات النفطية والغازية، ومواردها لا تسمح لها أن تكون أقل من دبي الإماراتية، ومن غير المعقول أيضا أن تعجز نصف بلديات البلاد عن دفع راتب عامل واحد منها، وتنتظر تحويلات الحكومة لدفع الرواتب.
لحسن حظ الجزائر، أنها لا تملك من الإثنيات والأقليات ما يمكن أن يجعل مثل هذا المشروع تهديدا للوحدة الوطنية، فما عدا العقدة المشدودة بين السلطة والقبائل، التي تحتاج إلى معالجة سياسية في إطار آخر، ولن يكون حلها في توازن بواسطة أيّ تقسيم إداري، فإن المسألة في حاجة إلى معايير علمية شفافة ونزيهة، وقبل التفكير في استحداث محافظة أو بلدية يتوجب على القائمين على ذلك بحث الإمكانيات المحلية التي تكفل لها أداء دور الواجهة الأولى للدولة والتكفل بانشغالات ساكنيها.
صحيح أن الفساد نخر جسد الدولة في سنوات مضت، لكن المساءلة يجب ألاّ تكون حاجزا أمام حرية المبادرة للمسؤولين والمنتخبين المحليين، لتحويل إقليمهم إلى ماكنة لصناعة الثروة، ولو استحدثت العشرات من المحافظات والمئات من البلديات دون مراجعة النصوص التي تحرر وتحمي المسؤول والمنتخب المحلي، فلن يكون لها جدوى في حياة السكان وسيبقى الريع تقليدا إداريا وسياسيا واجتماعيا.