تقزيم الأزمات إعلاميا لا يلغي وجودها جماهيريا في مصر

وسائل الإعلام المصرية تخفق في تلبية تطلعات المواطنين وتعزف نغمات بعيدة عن الواقع في وقت بات فيه بعض مقدمي البرامج يتبارون من تلقاء أنفسهم لتبييض صورة الأزمات والتغطية عليها من باب مجاملة الحكومة.
القاهرة – ينشد الإعلام المصري الانتشار ويتفنن في إغضاب الجمهور. فمازالت الكثير من المنابر التابعة للحكومة تتمسك بسياسة تقزيم المخاطر الداخلية، ومحاولة إقناع الناس بعدم وجودها أصلا. يحدث ذلك في ملفات مثل التعليم والتموين والأسعار، وتقدم مبررات واهية إرضاء للمسؤولين على حساب الجماهير ما قد يعرقل خطط وضع الإعلام على الطريق الصحيح.
واستقبلت نادية محمد، وهي أم لطالبة في مرحلة الثانوية العامة (البكالوريا)، دفاع بعض البرامج التلفزيونية عن الامتحانات التي جاءت تعجيزية وتسربت كالمعتاد، بحالة من الذهول، خاصة وأن غالبية وسائل الإعلام رددت نغمة واحدة، بأن أسئلة الثانوية كل عام بها أجزاء صعبة ولا داع لهذا الهلع.
وقالت الأم لـ”العرب” إنها كانت تترقب أن تتحدث البرامج بصوت الجمهور الناقم على سياسة الامتحانات، وكيف أنها كانت تعجيزية بالمعنى الحرفي وخرج الطلاب من اللجان في حالة بكاء هيستيري، لكن الصدمة في دفاع الإعلام عن وزارة التعليم، بل إن بعض المذيعين وجهوا لها الشكر على الامتحان التعجيزي.
وتظهر هذه النوعية من الوقائع كيف أصبح الإعلام المصري يتفنن في إغضاب الجمهور، ليس في ملفات سياسية واقتصادية فحسب، بل من خلال انحيازه الواضح للمسؤولين في القضايا الخدمية المهمة التي يلمسها الشارع بمختلف فئاته وطبقاته، ويصعب أن يتقبل الناس تبريرات أو حججا واهية.
ومازالت امتحانات البكالوريا يتم تسريبها على منصات التواصل الاجتماعي، لكن عند مطالعة حديث البرامج عن هذه القضية في الإعلام تتمادى الصحف وبعض مذيعي الصف الأول والثاني المعروف عنهم القرب من الحكومة، في تبرير الموقف، والإيحاء بأن أغلب دول العالم يحدث فيها نفس الأمر بسبب التطور التكنولوجي.
وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة للتعبير عن الغضب واتهام الحكومة بالتقصير والإهمال وعدم اتخاذ إجراءات تضمن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب، والسماح للغشاشين بالتمادي في سلوكهم، عبر التراخي في كشفهم مبكرا، ومعاقبتهم، لأنهم ينجحون على أكتاف المجتهدين.
ويرتبط هذا الواقع بفترة زمنية محددة، وهي امتحانات البكالوريا، لكنه يعكس حجم التباعد في المسافات بين الإعلام ورغبات الجمهور، من خلال تعمد البعض تقزيم الأزمات وخلق المبررات لها لإقناع الناس بأنها طبيعية مع أنها تمس صورة الحكومة.
الإعلام يتفنن في إغضاب الجمهور، ليس في ملفات سياسية واقتصادية فحسب، بل من خلال انحيازه في القضايا الخدمية
ومازالت وسائل الإعلام تأخذ صف الحكومة في القضايا التي تمس الشارع وتثير غضبه على مستوى السلع التموينية الأساسية وغلاء الأسعار مثلا، ومهما دافعت عن المسؤول لا يستطيع تهدئة غضب الناس، ما تسبب في توسيع دائرة فقدان الثقة في المنابر الإعلامية المؤثرة.
وقال م.م، وهو رئيس تحرير لأحد البرامج الحوارية في تصريحات لـ”العرب”، إن أغلب مقدمي البرامج الليلية الذين يدافعون عن المسؤولين عن الملفات الجماهيرية، يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم، وليس بتوجيه من جهات إعلامية أو أمنية، ويرتبط الأمر بلغة المصلحة الخاصة، وعدم قطع العلاقة مع الجهة التي يتولون مهمة تبييض وجهها.
وأضاف أنه يعمل في فضائية يفترض أنها تابعة لجهة حكومية، لكن عندما تم سؤالها عن كيفية تناول ملف مثل صعوبة وتسريب امتحانات البكالوريا قيل نصا “تحدثوا دون سقف، لأن الناس لن تقبل التحايل عليها أو التحدث إليها بخطاب مزيف، وبالفعل تم تناول القضية من زوايا مختلفة أغلبها كان لصوت الغاضبين”.
ويمكن اكتشاف التقارب الإعلامي مع المسؤولين المغضوب عليهم جماهيريا من خلال متابعة الحوارات التلفزيونية التي يجريها وزراء مع منابر محددة، لإدراكهم أن هذا البرنامج يدافع عنهم مهما بلغت المشكلة أو امتعاض الناس من التبرير، بينما يرفض نفس الوزير إجراء مداخلة مع برنامج آخر يتحدث بتوازن وعقلانية.
ويرى خبراء أنه من الصعب على أي جهة مسؤولة عن إدارة وملف الإعلام توجيه البرامج للتغطية على أزمات واضحة يمتعض منها الجمهور، لكن المشكلة الحقيقية في تقديم لغة المصالح على المهنية والشفافية والتوازن في مناقشة القضايا التي ترتبط بالشارع.
ويعتقد هؤلاء أن أزمة الكثير من الإعلاميين بمصر تكمن في تنامي الشعور لديهم بأن الحكومة لا ترغب في التغريد خارج السرب ويتبارون من تلقاء أنفسهم لتبييض صورة الأزمات والتغطية عليها من باب مجاملة الحكومة، مع أن الحكومة نفسها كثيرا ما ترد على مشكلات معقدة يطرحها جمهور منصات التواصل.

ورأى صفوت العالم أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة أن تقزيم الأزمات إعلاميا يوسع جماهيرية المنصات ويجعلها بالنسبة إلى الجمهور المنبر البديل، مع أن ذلك بالغ الخطورة على مكانة ومصداقية الإعلام ويترتب عليه بالتبعية أن تتحول الشبكات الاجتماعية إلى متنفس للغاضبين دون ضوابط أو سيطرة.
وأضاف لـ”العرب” أن تبييض صورة أي مسؤول عليه لغط جماهيري يضاعف دائرة العداء مع الإعلام ويفقده ما تبقى من مصداقية صارت على المحك، مع أن تبني وجهة نظر الشارع مع الجهة المغضوب عليها بشكل متوازن عملية سهلة وبسيطة ومن صميم المهنية، لكن ذلك يغيب عن أغلب البرامج ويجعلها منبوذة من الناس.
ولفت إلى أن الجمهور المصري أصبح على قناعة بأن الإعلام عندما يبرر أو يدافع عن أزمة، يتأكد الناس من حدوثها، وهذه مسألة بالغة تجعل المنابر الهامة بلا وزن أو ثقل داخلي، وبالتالي خارجي، ويضعها في موضع اتهام بالتبعية للسلطة، حتى لو كانت دوائر صناعة القرار بريئة من توجيهها أو دفعها للتحدث بنبرة معينة.
ويشير متابعون إلى الانحياز الإعلامي للحكومة بشكل فج في الأزمات الجماهيرية، يؤثر سلبا على الرسالة التي ترغب في توجيهها للشارع وقت التحديات الصعبة، لأن الوسيط الذي يخاطب الناس من خلاله مطعون في نزاهته سلفا، ما يضع الحواجز بين الجمهور والحكومة ويزيد الضغوط عليها.
وكان البعض يعول على عقلانية الإعلام في مناقشة القضايا الداخلية ليكون ذلك مدخلا في توسيع الجماهيرية عند طرحه التحديات الخارجية التي تواجه الدولة، وعلى رأسها أزمة سد النهضة الإثيوبي، لكنه أخفق في أن يكون المرجعية الأولى للجمهور للحصول على المعلومة، لأنه بالنسبة إليه بلا مصداقية.
وأكد مصدر إعلامي مطلع على كواليس إدارة المشهد لـ”العرب” أن تراجع مصداقية الإعلام عند الجمهور إلى مستوى قياسي يعرقل خطط انتشاله من أزماته، والحكومة ليست مطالبة كل يوم بإرسال نشرة للمذيعين بكيفية تناول هذا الملف أو غيره، لأنه من المفترض التوازن بعقلانية والموجودين على الساحة تم انتقاؤهم بعناية، باعتبار أن لديهم حسا سياسيا بالنقد الهادئ.
وذكر المصدر ذاته أن دوائر حكومية لا ترغب في اتجاه الجمهور لمنصات معادية تلعب على وتر تقزيم دور الإعلام المصري للمشكلات الداخلية، لكنها في نفس الوقت تريد مناقشة هذه القضايا إعلاميا بالداخل بطريقة تمتص غضب الناس، مؤكدا أن ثمة منابر تدافع عن مسؤولين أخفقوا لغياب الرقابة الإعلامية عليهم.
ويمكن البناء على ذلك أن السلطة في مصر وإن كانت تبحث عن الاصطفاف الإعلامي، إلا أنها لا ترغب في تقزيم الأزمات أو تحويل منصات التواصل إلى منابر بديلة أو لجوء الناس لقنوات معادية، وأمام هذه المعادلة الصعبة، مازالت بعض القنوات التابعة للحكومة لا تفهم الرسالة المطلوبة، ولا تدرك برامجها أنه لا مانع من تبني وجهات نظر الغاضبين بتوازن.