تفاقم العنوسة في الجزائر يطلق أجراس الاحتماء بالدولة من ظلم المجتمع

جزائريات عازبات يطمحن للعيش بسلام دون زواج رغم ضغوط الحياة والمجتمع والأحكام.
الأحد 2020/10/04
التحرر من قيود الرجعية لا يزال يشغل بال الفتيات

تعتبر ظاهرة التأخر في الزواج كابوسا يُطارد الفتيات في الوطن العربي ولاسيما في الجزائر، وزادت من وطأته ضغوط الحياة والمجتمع والأحكام التي تطلق على من تتأخر في الارتباط.

درجت المجتمعات العربية على اتخاذ آراء ومواقف قاسية من الشابات إزاء ظاهرة العنوسة، لكن أن تُشير الدراسات والإحصائيات إلى وجود 12 مليون عانس، فذلك يعني 12 مشكلة نفسية واجتماعية وصحية، فما يتسرب هنا وهناك عن مؤشرات العنوسة يدعو إلى دق أجراس الإنذار، قبل أن تفلت الأوضاع من أيدي المجتمع والمؤسسات الرسمية.

وقالت سهام (فضلت عدم ذكر اسمها بالكامل)، وهي من مدينة خنشلة (شرق الجزائر)، لـ”العرب” على أمل مساعدتها هي وغيرها من العانسات على إيصال أصواتهن “العار والتمييز يلاحقاننا في كل مكان، حتى في بيوتنا وبين أهلنا.. إنني لا آكل ولا أعالج ولا ألبس كبقية أفراد العائلة لأنني عانس.. العنف اللفظي والمعنوي والضرب هو غذائي، والسبب لأنني لم أتزوج”.

ويعد تصريح سهام مجازفة حقيقية في ظل انتمائها لمجتمع ذكوري تحكمه العادات والتقاليد التي تحظر على المرأة في كثير من المناطق أي نوع من الاتصال بالعالم الخارجي.

ويعري مضمون رسالتها واحدا من التابوهات في إحدى المناطق الداخلية، وهي مدخل للوقوف على الظاهرة بشكل أعمق بعيدا عن الإحصائيات والنظريات الجافة، ما دامت الأصوات متصاعدة من عمق الجزائر المحافظ من أجل تدخل المؤسسات الرسمية لحماية هؤلاء من مأساة تتجرعها صاحباتها في صمت.

الطموح المتزايد والاستقلال المادي انعكسا سلبا على بعض النساء بحيث تسببا في عنوستهن

وتروي سهام مأساتها قائلة “فقدت كل شيء في حياتي، جمالي، أملي وطموحاتي.. لم أعد إلا مجرد كتلة من اللحم والعظم، لا أدري ما أفعل، ولولا التزامي بصلاتي وإيماني لكان الوضع أسوأ.. لقد ندمت على دراستي في الجامعة، فلا شغل ولا زواج، والأمرّ من كل ذلك أن شهادتي الجامعية صارت معرّة لي، فدراستي هي سبب عنوستي.. هكذا يعتقد أهلي”.

وأضافت “في مجتمعنا وتقاليدنا، الفتاة تخرج مرتين الأولى لدار الزوجية والثانية إلى قبرها، وكم كنت محظوظة لما سمحوا لي بمواصلة الدراسة في الجامعة، لكن يا ليتهم لم يفعلوا، لقد تحولت حياتي إلى جحيم والجامعة إلى عيّرة أتجرعها يوميا”.

وعلى الرغم من أن ظاهرة العنوسة تشمل الملايين من الجزائريات، فإن سهام تشير إلى أن “الوضع يختلف بين المرأة العاملة والقابعة في المنزل، وبين تقاليد منطقة وأخرى.. فأنا أتحدث عما يعشنه الكثيرات في ما يعرف بالجزائر العميقة البعيدة عن الأضواء والصخب”.

لكنها شددت على أن “العانس ضحية في جميع الحالات، وأن الوقت حان للالتفات إلينا، لأن الجحيم يحرق الكثيرات”، متابعة “ممن أعرفهن هناك الصامدات وهناك المستسلمات.. أعرف فتيات هربن من بيوتهن، لم يتحملن ما يتعرضن له، لقد ذهبن دون رجعة وبلا وداع، تركن كل شيء خلفهن.. أهلهن، ذكرياتهن، أعز الأشياء لديهن، ليعشن حياتهن بعيدا عن الذل والهوان والنظرات الحارقة”.

أمي صارت لا تطيقني

ظاهرة التأخر في الزواج كابوس يُطارد الفتيات
ظاهرة التأخر في الزواج كابوس يُطارد الفتيات

كما كشفت سهام “لا أتبادل الزيارات مع أحد ولا أذهب إلى الحفلات والأعراس في البلدة، لأن أمي محرجة بعنوستي، ولا يمكن لي مواجهة نظرات النسوة في المناسبات”.

وتابعت “العنوسة عندنا تفقد الفتاة حقوقها الطبيعية في التكفل الاجتماعي، حتى الأكل، العلاج، اللباس.. هي من الدرجة الثانية لدى أفراد الأسرة، حتى الأم التي حملتك في أحشائها تسعة أشهر تصبح عبئا عليها، تتخلص شيئا فشيئا من غريزة العاطفة والأمومة وتستسلم لذكورية المجتمع وللتقاليد التي لا تطيق العانس بينهم”.

ويعجز مثقفو المجتمع القبلي عن الوقوف في وجه مثل هذه الممارسات، ولا يستطيعون الدفع نحو تهذيب التقاليد المتحجرة، فوفقا لسهام “هنا ليس من السهل التمرد على التقاليد، وحتى إمام المسجد الذي يجلس الجميع للاستماع إليه، لا يتناول إلا ما يتوافق مع البيئة التي يعيش فيها، أما كرامة المرأة وحقوقها والاعتناء بها فهي غائبة عن قاموس الجميع”.

ولا ترى “أي فرق بين العانسات وبين ذوي الاحتياجات الخاصة”، قائلة “لا نستطيع الكلام أو الحركة، فمجرد اتصال بالصوت أو الصورة يكتب نهاية صاحبته، لذلك تظل مأساتنا بعيدة عن الأضواء، لا تقل لي الكشف عن الهوية في جمعية أو الظهور في تلفزيون.. إنها النهاية”.

وتدعو الشابة الجزائرية إلى ضرورة أن “تعمل الحكومة على التكفل بنا، إننا جزء من الشعب، ولن يضيرها إن خصصت لنا منحة وسكنا يأوينا ويريحنا من نظرات التمييز والمعاملة الدونية، نريد أن نعيش أيامنا دون أن ننتحر أو ننزلق إلى المحرمات.. نريد أن نكمل أعمارنا في هدوء وطمأنينة”.

ولا تزال الدراسات الاجتماعية تتسم بالجفاف والتحليل النظري، حيث لا يوجد في الجامعات أو المراكز المختصة ما يوحي أو يحفز المؤسسات الرسمية على استشراف تطورات لافتة للمشكلات الاجتماعية، من أجل أخذ الاحتياطات اللازمة، لاسيما وأن كاهل الدولة لم يعد قادرا على تحمل أعباء جديدة.

وأظهرت دراسة اجتماعية لنيل شهادة الماجستير للباحثة في علم الاجتماع آمال بن عيسى، أن “الديوان الوطني للإحصائيات يشير إلى أن 51 في المئة من نساء الجزائر اللواتي بلغن سن الإنجاب يواجهن خطر العنوسة، وأن هناك 4 ملايين عانس تجاوزت أعمارهن سن الـ35، وأن التقديرات الإجمالية تكشف عن وجود حوالي 12 مليون عانس، وهو ربع مليون التعداد البشري للبلاد”.

الطموح المتزايد والاستقلال المادي انعكسا سلبا على بعض النساء بحيث تسببا في عنوستهن

وذكرت الدراسة أن “العنوسة ظاهرة تهدد استقرار المجتمع، فالارتفاع المستمر في نسبة العوانس من شأنه أن يعصف ببنية وتماسك المجتمع وذلك لأن الآثار المترتبة عنه لا تمس المرأة فحسب، بل الأسرة والمجتمع بصفة عامة، ولعل أهم تلك الآثار هو الانتشار اللامحدود لمختلف أنواع الانحرافات وفي مقدمتها العلاقات الجنسية غير الشرعية”.

ووفق ما جاء في الدراسة، شهد المجتمع الجزائري في السنوات الأخيرة استفحالا لظاهرة العنوسة، حيث ارتفع عدد النساء غير المتزوجات بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات الماضية، وجاء هذا الارتفاع في ظل التحولات التي عرفها ومازال يعرفها المجتمع الجزائري.

وتبين النتائج الميدانية للدراسة أن البطالة وصعوبة الحصول على المسكن وارتفاع تكاليف الزواج في ظل غلاء المعيشة تشكل كلها عوامل سوسيواقتصادية هامة تقف حائلا دون إقبال الشباب على الزواج، خاصة وأن أسلوب الحياة قد تغير كثيرا مقارنة بالسنوات السابقة، بحيث أصبح له مقتضياته ومستلزماته وعدم توفرها قد ينعكس بالسلب على حياة الشباب.

فالشاب يقضي سنوات عمره في الدراسة وبعد التخرج يلب نداء الواجب ويؤدي الخدمة الوطنية، ثم يتفرغ للبحث عن عمل ثابت يضمن له أجرا محترما يساعده على تحقيق أهدافه وطموحاته، لينتقل بعد ذلك لإيجاد المسكن المستقبلي سواء شراء أو بناء أو استئجارا، فينتبه أنه في منتصف الثلاثينات وعليه بالاستقرار العائلي، حيث صار مهيأ ماديا نسبيا، لكنه في الغالب لا يتجه في اختياره لشريكة حياته نحو من تماثله في السن بل الأصغر منه، لتقل بذلك حظوظ قريناته ويتسبب في عنوسة البعض منهن.

وتعتبر سهام نموذجا حيا عن شريحة من الجزائريات صرن في حاجة لحماية الدولة بسبب عنوستهن، فالدراسات عادة ما تكتفي في اختيار عيناتها ونماذجها من المدن الجامعية أو القريبة منها، حيث يسود نوع من الأريحية والانفتاح، بينما يستمر تجاهل العانس التي تعاني في المناطق العميقة، حيث لم تعد سلطة التقاليد و”العار” المصطنع تحتمل رؤية العانس في الأسرة.

ولم تشر أي من هذه الدراسات إلى أن هناك جزائريات لم يملكن حظا للزواج، يعشن ظروفا اجتماعية ونفسية صعبة، فهن مخيرات بين الفرار نحو حياة أخرى ينتقمن فيها من مشاعر الحرمان، وبين الاستسلام لمصيرهن وهن فاقدات لطعم الحياة، ولم يبق لأمثال سهام إلا الاستنجاد بالدولة لتأمين منحة وسقف لهن يكملن بهما ما بقي من العمر.

شهادتي راكمت تعاستي

في سياق متصل لم تستبعد الدراسة التي تشرف عليها آمال بن عيسى دور التغيرات الهامة في حياة المرأة، من حيث المكانة والدور في تفاقم الظاهرة، حيث أصبحت الفتاة تسعى إلى إثبات ذاتها في المجتمع من خلال التعليم والعمل أولا، ثم الزواج ثانيا، وارتفاع مستواها التعليمي واستقلالها المادي غير من نظرتها نحو بعض السلوكات الاجتماعية وفي مقدمتها الزواج، الذي سجل تراجعا في سلم أولوياتها لحساب الدراسة والعمل.

وأدت كل هذه العوامل وفق الدراسة إلى تأخر سن زواج الفتاة وتسبب الطموح العلمي المتزايد لها في عنوستها، وقد لقي إقبال المرأة على التعليم والعمل تشجيعا من طرف الأسرة وخاصة الأم التي أصبحت ترى بضرورة مواصلة البنت تعليمها الجامعي لتتحصل بذلك على السلاح الذي يحميها من تقلبات الحياة.

وترى الدراسة أن الطموح المتزايد والاستقلال المادي انعكسا سلبا على بعض النساء بحيث تسببا في عنوستهن، وقد تفضي العنوسة في ظل التغير الاجتماعي وغياب الوازع الديني إلى انحراف بعض الفتيات واتجاههن في سبل الظفر بالزوج إلى طرق تتنافى مع قيم ومبادئ المجتمع.

وقال أستاذ علم الاجتماع عبدالسلام فيلالي لـ”العرب”، “هذه القضية معضلة اجتماعية مسكوت عنها، أو قل يحاول المجتمع أن يخفيها. لو أننا نراجع إحصائيات النساء غير المتزوجات ونريد أن نعالجها معالجة عقلانية، لتحتم علينا طرح السؤال والبحث عن حلول”.

وأضاف فيلالي أن سهام هي “جزء من هذا الجانب الخفي أو المسكوت عنه. أولا: يمكن تناولها ضمن السياق العام لمعالجة أزمة البطالة، سواء ضمن المسعى العام الحكومي دون تمييز، أو من حيث البحث عما يناسب فئة الإناث غير المتزوجات من عمل أو دعم ضمن الاقتصاد الأسري. غير أن هذه الحلول لا تراعي البعد الاجتماعي لوضع المرأة في مجتمع محافظ، مثل المجتمع الجزائري، لجهة التضييق على حركتها أو البحث الفردي عن تغيير للوضع خارج الإشراف الأسري الذكوري الممارس عليها”.

وتساءل فيلالي “هل نستعد كمجتمع من الآن لعبء اجتماعي جديد منحة وسكنا؟ أظن أن هذا الحل غير مناسب وغير ممكن التحقق مع رقم 11 مليون عانس في بلادنا. لذلك يجب التفكير في حلول تراعي الزمن الحاضر والمشكلات المستجدة مع نموذج الأسرة النواة”.

وحول ردود الفعل المنتظرة من المؤسسات الرسمية والتشريعية، أشار عالم الاجتماع “الآن تعالج هذه القضية ضمن التفكير المجرد من أي تمييز لوضع هذه الفئة الاجتماعية، كأن هناك خوفا من تناولها أو طرحها للنقاش وأستطيع استخدام مصطلح (طابو)”.

واستشهد فيلالي بردود الفعل على موضوع التبني، قائلا “شهدنا كلنا كيف كان رد الفعل على موضوع التبني من قبل المحافظين، فهم لا ينظرون إلى الحل بل إلى القيود بحيث تسد جميع المنافذ، بل إنه يتم القفز على أي اجتهاد مستنير، مثل الذي طرحه المرحوم أحمد حماني. ولذلك أرى أنه من اللازم أن تعالج مثل هذه المسائل سياسيا، أي منظور طرح عام يحتم على الدولة أن توجد الحلول المستعجلة والمناسبة لهكذا قضايا ومعضلات”.

ولفت إلى أن “المقام استقر منذ الثمانينات، وهي الفترة التي كرست نصر القوى المحافظة (نذكر قانون الأسرة لسنة 1984 على سبيل المثال)، على نصر تحول إلى عقدة وخوف من رد الفعل في ما يخص بالجوانب المتعلقة بالمسلكيات الفردية والحريات، مما يؤدي بي إلى الحديث عن غياب الشجاعة لدى صاحب القرار بل وعدم وجود شخصيات سياسية تملك الشجاعة للإصلاح والتغيير وفق آليات الزمن الحاضر كما قلت”.

وأشار فيلالي في خاتمة حديثه إلى أن “طرح هذه الحلول يأتي بعد نقاش وبمراعاة التركيبة القيمية للمجتمع، بيد أنه يتعين أن نعبر خط الروبيكون وقد آن الأوان. وصارت العديد من القضايا الاجتماعية، ومنها مشكلة العنوسة تضغط بشكل حاد. إن مشكلة هذه المرأة، سهام، هي صرخة، يجب أن تجد آذانا صاغية وتفكيرا يتوافق مع حدتها وبالتالي الحلول أيضا”.

20