تغير نظرة المجتمع نحو رقص الباليه يوفر موارد رزق بمصر

محمود صالح صانع ستيني يضع بصمته على أحذية الفراشات الراقصة يدويا بمصر ويسعى إلى حفظ المهنة من الاندثار.
السبت 2019/11/16
الحذاء سر الامتياز

على الرغم من أن رقص الباليه لم يعد نخبويا قاصرا على الأغنياء بمصر، إلا أن البلاد تفتقر إلى صناع مختصين في هذا النوع من الأحذية، ويحاول محمود صالح حفظ المهنة التي عرف أسرارها من بعض الخبراء الروس من الاندثار، ويأمل في إنشاء مركز متخصص في صناعة أحذية الرقص.

القاهرة – أصبح محمود صالح الوحيد الذي ينتج أحذية الرقص بمصر، واكتسب زخما مع تحول الباليه من هواية فنية قاصرة على الأغنياء إلى فن يحظى بقبول جماهيري بين مختلف الطبقات مع تنامي الوعي بأهميته في تحسين قدرات الصغار على المستويين البدني والنفسي.

تحول فن الباليه إلى مشروع لبعض المراكز الثقافية وامتدت مظلة تعليم أساسياته لشريحة كبيرة من الأطفال، بالاستعانة بكادر من خريجي المعهد العالي للباليه والأكاديميين العاملين به.

لا تعرف الكثير من راقصات الباليه المحترفات أن الأحذية التي يقفزن بها على المسرح كالفراشات تقف خلفها ورشة متواضعة بمنطقة العمرانية في الجيزة المتاخمة للقاهرة، يملكها عجوز أمضى نصف قرن من عمره لصالح مهنة يخشى عليها من الاندثار.

تحمل أحذية الباليه “‫الباليرينا” قدرا كبيرا من الأهمية للراقصة فحياتها تعتمد على مدى قوة مقدمة الحذاء المصنوع من الحرير الوردي أو الأسود وقطعة صغيرة من جلد الجاموس بالأسفل (النعل)، ومزود بأشرطة شديدة القوة مربوطة على الكاحل، تعطي الراقصة الإحساس بالأمان، وتدعم قفزاتها وتحركاتها السريعة على المسرح.

والباليه هو نوع من الرقص يقوم على تقنيات الرقص التعبيري ترافقه الموسيقى والإيماء والمشاهد المسرحية. ومن أهم خصائص الباليه الحركية، الرقص على رؤوس أصابع القدمين.

انفراد بالصناعة

الاتزان يبدأ من الأقدام
الاتزان يبدأ من الأقدام

يُظهر صالح البالغ 67 عاما، الوحيد الذي يصنع أحذية الفراشات الراقصة يدويا بمصر، سعادته بالتقدير المستجد إزاء رقص الباليه وتوسع المدارس والمراكز الخاصة التي تقدمه، بالتوازي مع دار الأوبرا وقصور الثقافة التي توفر مدربين متخصصين في مناطق مختلفة.

اكتسب صالح الذي لم يرقص الباليه يوما أسرار المهنة من بعض الخبراء الروس الذين أداروا المنظومة الفنية بمصر عبر أكاديمية الفنون في الحقبة الاشتراكية، قبل طردهم من جميع المجالات الفنية والعسكرية على يد الرئيس أنور السادات منذ 47 عامًا، ويحاول باستمرار تطويرها على مستوى جودة الصناعة.

يعرف الرجل الستيني الأوضاع المطلوبة للقدمين في رقصات الباليه جيدًا، ويراعيها في تصميم الحذاء الذي يحيكه، بداية من وضع الراقصة أصابع القدم إلى الخارج كلية وتلاصق الكعبين في بداية الاحتراف، ونهاية بأكثر الحركات تقدمًا بالتصاق القدمين ببعضهما البعض مع مواجهة أصابع كل قدم كعب الرجل المضادة.

تقتنع الكثير من الأسر حاليًا بأن الباليه نشاط يحمل تأثيرات إيجابية على المستويين البدني والنفسي، من تقوية العضلات وتعزيز الثقة بالنفس، واحترام الذات بممارسة حركات الكبار الصعبة في سن صغيرة، والانضباط في مواعيد الدروس، والقدرة على التعبير عن المشاعر دون خجل.

كان بكعب

محمود صالح: يعرف الأوضاع المطلوبة للقدمين في رقصات الباليه جيدًا، ويراعيها في تصميم الحذاء
محمود صالح: يعرف الأوضاع المطلوبة للقدمين في رقصات الباليه جيدًا، ويراعيها في تصميم الحذاء

بدأت النساء رقص الباليه في عام 1682 وبعد عشرين عاما أمر ملك فرنسا لويس الرابع عشر بتأسيس الأكاديمية الملكية للرقص. في ذلك الوقت كان حذاء الباليه القياسي الخاص بالمرأة يحتوي على كعب. في منتصف القرن الثامن عشر كانت الراقصة ماري كامارغو من فرقة باريس هي أول من ارتدت حذاء دون كعب. وبعد الثورة الفرنسية أزيلت عن الباليه جميع الأحذية القياسية بالكعب.

وكان الباليه عبارة عن مشاهد تؤدى في البلاط الإيطالي أثناء عصر النهضة لتسلية الضيوف، ثم أطلقه الفرنسيون على حركات الرقص وتقنياته. وقد اكتسب رقص الباليه الكلاسيكي تقنياته من تطبيق نظام صارم في التدريب والتجارب على مدى أكثر من أربعة قرون، واعتمدت تقنياته على جعل الجسم يتحرك بأكبر قدر ممكن من المرونة والسرعة والسيطرة والرشاقة.

ويقول صالح لـ”العرب”، إن الباليه يخفي وراءه عناء شديدا للراقصات اللاتي تتحمل أصابعهن ضغط الجسم بالكامل وتنبت فيها باستمرار “مسامير القدم” والتواءات عنيفة، ومقاساته أكبر نسبيًا لمساعدتهن على لف قطع من السليكون عليها، أو حتى قطع من القطن بينها لتقليل الألم.

وتكون أحذية الباليه خفيفة الوزن مصممة خصيصا للراقصات. وقد تكون مصنوعة من جلد ناعم أو قماش كتاني أو ساتان وبطانة مرنة ورقيقة. تقليديا، ترتدي النساء الأحذية الوردية والرجال يرتدون الأحذية البيضاء أو السوداء. الأحذية باللون البيج تعطي مظهر الرقص حافي القدمين ويتم ارتداؤها في الباليه الحديث وأحيانا الرقص الحديث لكل من الرجال والنساء.

وعادة ما يرتدي جميع الراقصين أحذية الباليه في بداية حصص الباليه. ويجب أن تتناسب الأحذية مع القدم من أجل السلامة والاحتفاظ بالمرونة بشكل كبير.

ويحفظ الصانع الذي يعمل من الساعة السادسة صباحًا حتى العاشرة مساء يوميًا، عن ظهر قلب تاريخ المعهد العالي للباليه، وأُقيم أول عرض مصري بالكامل عام 1966 بعنوان “نافورة بختشي سراي” أو النسخة الروسية من “ألف ليلة وليلة”، وحضره الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، وأسماء أشهر الرقصات العالمية مثل “كسارة البندق” و”دون كيخوت” و”بحيرة البجع” ومؤلفوها.

ربما تكون الصدفة البحتة وراء إتقانه تلك الصناعة، حيث تم تعيينه بالمعهد القومي للباليه عام 1968 بعمر 13 عاما خلفا لوالده الذي عمل في المهنة ذاتها وترقى فيها حتى صار رئيسًا لقسم الأحذية قبل الخروج على المعاش، ولم يرتح لمهنته بسبب ملابس الراقصات إلا عندما حصل على فتوى شرعية من الأزهر الشريف بمشروعية العمل بها.

أراد صالح في البداية السير على خطى جده في صناعة أحذية الملاكمة والمصارعة مع تعلقه برياضات عنيفة، وبالفعل زاول لعبة حمل الأثقال وحصل على بطولتين للجمهورية، وكان على وشك الانتقال إلى منتخب الكبار، قبل استدعائه للخدمة العسكرية، وتمضيته خمس سنوات كمحارب تخللتها حرب أكتوبر 1973.

مركز متخصص

صنعها يتطلب جهدا كبيرا
صنعها يتطلب جهدا كبيرا

أصبح الباليه جزءا من هوية عائلة صالح في المقام الأول فوالده عمل بالمهنة ذاتها، وشقيقه الدكتور جمال صالح تولى منصب عميد المعهد العالي للباليه، ولا يزال حتى الآن يقدم خبرته، ومن المفارقات أن أول راقصة باليه بمصر كانت تحمل اللقب ذاته “ماجدة صالح”.

ويراهن صالح على معادلة السعر والقوة فمنتجه لا يتجاوز 30 دولارا بعمر افتراضي 6 أشهر للزوج، والمستورد من السوق الآسيوية يتجاوز 120 دولارا ولا يتحمل سوى أربعة عروض طويلة، ما يجعل الراقصة المحترفة في احتياج إلى أربعة أزواج على الأقل شهريًا.

تخصص صالح في أحذية “السعادة” فبجانب الباليه تعاون مع نحو 15 فرقة رقص شعبي أشهرها “محمود رضا” التي تختلف في كونها من الجلد الخالص وليس الحرير، كما ينتج أيضا أحذية “الكراكتر” الخاصة برقصات التانغو الأرجنتيني والفلامنكو الإسباني، ويجري الصيانة اللازمة لأحذية المسرحيات التاريخية كمسرحية “الملك لير”.

يجري اختبارات تقليدية على جودة الحذاء للتأكد من صلاحيته للعمل ويصبح جاهزا بمجرد وقوفه على الأرض، فأي هامش طفيف من عدم التوازن قد يصيب الراقصات على المدى البعيد بمشكلات في عضلات الأرجل والتهابات في المفاصل والظهر.

ويحلم الرجل الستيني بإنشاء مركز متخصص في صناعة أحذية الرقص وإدخال الميكنة الحديثة إليه بشراء الآلات التي تنتج كميات ضخمة لم يستطع يومًا توفيرها لارتفاع سعر الواحدة منها إلى قرابة 750 ألف دولار أميركي.

ويتطلب صنع حذاء الباليه قدرًا من الجهد فأصابع الصانع مليئة بكدمات ورضوض خلفها استخدام الجاكوش والمقصات لعقود، تعادل تمامًا ما تعانيه الراقصات المحترفات اللاتي يدعين الابتسام ويطرن كفراشات، ويوارين في الوقت ذاته آلاما لا تحتمل داخل أحذية تتضمن أقدامًا ممتلئة بالرضوض والأظافر المكسرة والأصابع المعوجة ومتاعب لا تنتهي.

17