تعكير المزاج الجزائري

يبدو أن السلطة تريد ارتداء ثوب الغني باكتناز العائدات، والتضييق على استيراد الحاجيات، واستحداث آليات البيروقراطية والفساد.
الثلاثاء 2024/12/17
يجب رفع اليد الإدارية عن قطاع التجارة

يبدو أن لمادة البن في الجزائر حكاية غير حكايات المادة لدى شعوب أخرى، ولأنها تمثل ضابط المزاج الأول قبل مباشرة أي خطوة خلف عتبة البيت أو قبلها صارت محل مساومة كبيرة من طرف مترصدي الفرص في قطاع التجارة والاستيراد.

حتى الحكومة فهمت اللعبة واستبقت فقدان الجزائريين لمزاجهم اليومي، وعقدت عند بداية الأزمة مجلسا للوزراء وقررت تسقيف أسعار البيع للمستهلكين، وتكرمت الخزينة بدفع فارق السعر، لكن لأن مصائب قوم عند قوم فوائد، هناك من يريد استغلال الوضع لأغراض أخرى.

السلطة في الجزائر لا تريد لمزاج الشعب أن يتعكر، ولذلك تحرص على توفير هذه المادة السحرية وتأمين وفرتها، ولو كلفها ذلك عبئا جديدا لميزانية لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الأعباء، ولذلك استغرب البعض تدخل الحكومة لدعم أسعار القهوة، لكنه لا يعرف أن تلك المادة هي ملاذ ذهني ومزاجي لتعديل أوتار يوميات منهكة.

القهوة في الجزائر هي جزء من توفير السلم الاجتماعي، فلا أحد باستطاعته تخيل البلاد من دون قهوة، فتراكم المنغصات والمعكرات لا بد له من علاج، وعلاج الجزائريين لذلك الداء المستشري هو كوب قهوة، ولولاه لكان الانفجار سريعا، ولذلك تتصدر البلاد لائحة الدول العربية المستهلكة للبن، رغم أن تعداد سكانها هو تعداد سكان القاهرة فقط.

المصالح الحكومية التي تريد “دلال” الشعب أطلعته على أنها حجزت 23 ألف طن من القهوة كانت معبأة في أكثر من 120 حاوية، مملوكة لـ66 مستوردا، كانوا بصدد تأخير ضخها في السوق من أجل خلق حالة من الندرة والقلق والمزاج الشعبي المعكر، لكنها لم تبلغه كيف حصل هؤلاء على رخص الاستيراد ما دامت الحكومة هي التي تمارس الاحتكار الأول (منح رخص الاستيراد)، ولم تطلعهم أيضا كيف اتفق كل هؤلاء المستوردين على حجب القهوة بهدف خلق أزمة في السوق وإثارة أعصاب الجزائريين.

وقبل ذلك لم تجب الحكومة على أسئلة الجزائريين عن نوعية القهوة التي باتت تسوّق في المتاجر، فهي قريبة إلى الشعير والحمص والنوعية الرديئة من البن، رغم أن الخزينة تدعم المادة بقرار اتخذه الرجل الأول في الدولة شخصيا، الأمر الذي يكشف عن وجود أكثر من غشاش في القضية.

للقهوة في المخيال الجزائري مكانة خاصة؛ فقد كانت أحد مؤشرات وأسباب الانتفاضة الشعبية في أكتوبر 1988، آنذاك كانت “أسواق الفلاح” الموروثة عن العهد الاشتراكي، قد بدأت تعلن إفلاسها والندرة تضرب أطنابها، فيمكن لعلبة بُن أن تكلف صاحبها اعتداء جسديا مهما اجتهد في إخفائها، لأن رائحتها ستكشف سره لملاك حاسة الشم.

الآن الوضع يختلف تماما قياسا بالوضع المالي والاقتصادي للبلاد، لكن غرق الحكومة في معارك الطواحين كلفها جهدا ووقتا ومالا ضائعا، فقد صارت من حين إلى آخر تحشد أجهزتها ومؤسساتها لملاحقة أزمات متتالية أحيانا؛ بدءا من أزمات الزيت والحليب والعجلات وليس انتهاء بأزمة البن.

ويبدو أن السلطة تريد ارتداء ثوب الغني باكتناز العائدات، والتضييق على استيراد الحاجيات، واستحداث آليات البيروقراطية والفساد، فلو أخضعت السوق لقانون العرض والطلب لما تجرّأ من رخصت لهم حكومة هذه السلطة توفير مادة البن على احتكارها من أجل المضاربة بها.

أصوات خبراء ومختصين بحّت من كثرة الدعوات إلى رفع اليد الإدارية عن قطاع التجارة، لاقتناعهم بأن المنافسة والعرض والطلب هي التي تضبط أوتار السوق وليس النصوص التشريعية الجافة، وإذا اشتعلت أسعار مادة البن في الأسواق العالمية، فهناك أسعار مواد أخرى انخفضت إلى حد الركود، لكن المستهلك الجزائري لا يلمس قاعدة صعود السوق ونزولها، فلم يحدث أن زاد سعر مادة وعاد إلى الانخفاض، وذلك كله بسبب التسيير الإداري المفضي إلى البيروقراطية والفساد.

18