تعديلات تويتر تجعل السياسيين في حل ممّا يقولون

أكثر ما يُثير الحنق والتقزز والاستفزاز من سيرة الزعيم الدكتاتوري في البلدان المتخلفة هو أن هذا الحاكم يوعز إلى زبانيته ومستخدميه بابتداع وتسويق تاريخ مزيف له من التصريحات والمواقف والشهادات.
وها هو الحديث يكثر ويتفاعل في الأوساط الإعلامية والسياسية والاجتماعية اليوم، عن إقدام كبرى المنصات العملاقة تويتر على تغيير خاصية طالما ميزتها لسنوات مضت، وهي استحالة القدرة على تعديل تغريدة مكتوبة بأي شكل من الأشكال.
يمكن للمرء حذف وإخفاء ما كتبه على هذا الموقع، ولكن ليس من حقه أن يعدل فيه، فلقد “حُصّل ما في السطور”، ولا يمكن للواحد أن يستحم بمياه النهر الواحد مرتين، على حد تعبير الفيلسوف اليوناني هيروقليدس.
ميزة هذه الخاصية دون غيرها من المواقع أنها تكرس التلقائية وتشجع على العفوية مع تحمل المسؤولية التاريخية، حتى وإن كانت مبالغا فيها كما يرى منتقدون.
لا بأس من تصحيح أخطاء محرجة أحياناً، أو أغلاط طباعة، أو رسائل مكتوبة بصورة متسرعة، كما يرى جان ساليفان، مسؤول قسم المنتجات في الشبكة التي سبق لها أن عدّلت طول الأحرف المستخدمة، مما يسمح ببعض التدارك، لكن أن يصل الأمر إلى حد تعديل تغريدة سابقة فهذا ما وقع توصيفه بكذبة الأول من أبريل، أي استحالة وقوعه.
وبما أن بعض “سرديات الأول من أبريل” قد حصلت بالفعل، في هذا العالم المتقلب، فإن إعطاء الحق في التصحيح ممكن قبل رؤية التفاعلات الخارجية، حسب بعض التخريجات كإلغاء التغريدة ثم نشر أخرى محلها، وذلك لأن هذه المنصات تشجع على نشر محتويات بسرعة فائقة.
وفي إطار هذه التخريجات والتبريرات دائما، تقول صوفي جيهيل، المختصة في الاستخدامات الرقمية، إنه يتعين أيضاً وضع “علامة تظهر أن الرسالة معدلة”، متوقفة خصوصاً عند احتمال تغيير المستخدمين مواقفهم تبعاً للتعليقات التي يتلقونها.
الجميع يعلم أن التفاعلات الصاخبة والسريعة هي أبرز ما يميز منصة تويتر ذات المزاج الأميركي، وأن انفضاض جيل الشباب من حولها سوف يفقدها تلك الديناميكية الأخاذة
ومهما يكن من أمر، فإن القضية تتعلق بسؤال نفسي وأخلاقي قبل أن يكون تقنيا محضا، خصوصا وأن تويتر ساحة معارك شخصية وسياسية بل كثيرا ما دخلت طرفا في الصراعات بشكل مباشر أو غير مباشر كقولها منذ بداية الأزمة الأوكرانية إنها اتخذت إجراءات ضد أي دولة “تقيد الوصول إلى الإنترنت المفتوح بينما تشارك في نزاع مسلح”.
أما الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي له صولات وجولات مع تويتر، فعندما سئل في مقابلة عن استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي قال في بداية رئاسته “سأكون مقيداً جداً، هذا إذا استخدمتها على الإطلاق” ثم تبين أنه استخدمها باستمرار، لينشر أكثر من 20 ألف تغريدة على تويتر خلال فترة رئاسته.
وكمثال فاقع عن “اللخبطة” التي يمكن أن تنجر عن التعديلات في تويتر، فإن المرشد الإيراني علي خامنئي نشر على حسابه في تويتر تغريدة جاء فيها إن “المفاوضات تسير على ما يرام”، لكن حساب المرشد عاد لكي يعدل التغريدة، بعد ساعات من نشرها حاذفا منها عبارة “تسير على ما يرام”.
هذه التعديلات التي تخص الشركة الأميركية العملاقة، والتي تزدحم بعشرات الملايين من التغريدات عشية كل انتخابات تحصل في الدول العظمى، والتي تنوي تويتر المضي فيها، من شأنها أن تصبح ثقلا انتخابيا خفيا، هذا إن لم نقل عاملا ضاغطا وشبحا تزويريا مقنّعا ومقننا.
إننا نواجه بحق إتاحة فرصة لعملية تزوير كبرى في التاريخ الحديث، وذلك بطرق وآليات تبدو ديمقراطية في ظاهرها، لكن في عمقها أشد وبالا مما يقدم عليه الدكتاتوريون من صناعة السير المزيفة لأنفسهم.
طرق التعديل التقليدية المعتمدة لدى زعماء الأنظمة الشمولية يمكن كشفها عبر مسالك إدارية بسيطة تستند إلى شهود العيان والوثائق والخطابات المسجلة، بينما تسمح طرق التعديل التي تنوي تويتر المضي فيها بالميلان في اتجاه أي ريح طارئة.
موجات التبييض والتلميع التي ستسمح بها تقنيات التعديل، سوف تكون بمثابة الكارثة، وستسمح للشياطين بأن تكون ملائكة، وللملائكة بأن تشيطن لمجرد أن تنتفي المصلحة منها.
“مبدأ التصحيح” هذا سوف يكون أشبه بـ”الحركة التصحيحية” التي تعتمدها الأنظمة الانقلابية، والتي يظهر أبطالها في بدلات مدنية يسحلون خلفهم “تاريخا نضاليا مشرفا”.
الجميع يعلم أن التفاعلات الصاخبة والسريعة هي أبرز ما يميز منصة تويتر ذات المزاج الأميركي، وأن انفضاض جيل الشباب من حولها سوف يفقدها تلك الديناميكية الأخاذة التي تهددها حالات الرصانة والتعقل وحسابات طريق العودة.
وحتى في حالات القبول بتعديل التغريدات دون حسابات سياسية أو مستقبلية تخص النزاهة مع النفس، فإن كتابة التغريدة ثم تعديلها مثل من يلعب الشطرنج مع زوجته أو حماته كما يقال لدى عامة الناس.
أما عن الجانب النفسي ذي الطابع الأخلاقي فإن المسألة تكتسي بعدا وجوديا يقدس الكلمة المكتوبة ويعتبرها ميثاق شرف كما ورد في قصيدة المناضل التونسي منور صمادح، والتي كتبها في مستشفى الأمراض النفسية عند ستينات القرن الماضي:
ما الذي ترجوه من دنياك لولا الكلمات
أنت إنسان لدى الناس رسول الكلمات
فتكلم وتألم ولتمت في الكلمات
وإذا ما عشت فيهم فلتكن الكلمات
شاهد أنت عليهم وعليك الكلمات.