تعب المشوار

لأن "الموت ضرب من القتل" فإن الصديق الذي فقدت لم يهنأ بالإنجازات الصغيرة التي حققها عند منتصف العمر في الكتابة والتمثيل وحتى الهندسة.
الثلاثاء 2022/08/23
من يقترب من الدلاج يتعرف إلى "زوربا" حقيقي

ولأن “فقد الأحبة غربة” كما قال علي بن أبي طالب، فإنّ رحيل رفيق غربتي، الصديق محمد الدلاج، منذ يومين قد رسّخ  لدي قناعة بأن هذه الدنيا نأتيها أغرابا ونرحل عنها أغرابا.

ولأن “الموت ضرب من القتل” كما قال أبو الطيب المتنبي، فإن الصديق الذي فقدت لم يهنأ بالإنجازات الصغيرة التي حققها عند منتصف العمر في الكتابة والتمثيل، وحتى الهندسة التي تخرج منها وهو يلامس سن التقاعد أي أن حصانه كبا وهو يهم بوضع قدمه في الركاب.

من يقترب من الدلاج يتعرف إلى “زوربا” حقيقي وليس ورقيا مثل ذاك الذي اشتهاه خيال كازانتزاكي. إنه “زوربا الدلاج” من لحم ودم ولكنة تونسية فصيحة تختلط بلهجة سورية وقد عاشر الكرد والتركمان والشركس والأرمن، وصاهر أهل حوران وأنجب منهم “بيرم” و”إيليسار” و”ديسم” ثم انطلق لا يلوي على شيء سوى التهام الحياة.

يدهش محمد جميع من يعرفه إلا نفسه، يتهمها بالجحود والتقاعس والتقصير، ويتوعدها بموت مثير وسعيد كما في نصه “وليمة نعشي.. موت بطعم الكرز” الذي أهداه إلى كل الذين تساقطوا كذباب أزرق “نصف مقتنع كنت، لكني على يقين الآن من موت لطيف وأنيق لرجل نعق يوما فمات.. جسدي سيكون مطواعا لينا، طريا ومتجاوبا ليدي أبي ماهر مغسل موتى، والذي يشتكي دوما من قلة الشغل”.

وبالمناسبة، فإن أبا ماهر، مغسل الموتى، هو شخصية من لحم ودم وانتظار، يعاقر حانة جوزيف في دمشق، ويجالسنا أنا والدلاج، ليروي لنا حكايا الأشباح والغيلان في مقبرة “الدحداح” بشارع بغداد، ويقاسمنا صحن “الأوزي” الذي يأتي به من بيت المرحوم بعد غسله ودفنه إثر تلقينه قبيل أن يوارى الثرى والنسيان، ويواجه ظلمة قبره.

عبر تلك الأجواء المعفرة بالدخان والثرثرة وعدّ الوقت بالأقداح والتنهدات ومواويل “العتابى” و”الميجانا”، نسجنا أنا والدلاج المُتون اللاهثة خلف النسيان والنصوص التائهة في الأسواق مثل تونسيين إلا قليلا.

عمل الدلاج معي كماثل وممثل في مسرحيات أنجزناها ضمن فرقة “الرصيف” في ظروف اللاظروف، وعرضناها أمام جمهور من “العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، وصفقوا لنا وكتبوا عنا، إلى أن أصابنا الخجل.

أبو ماهر، مغسل الموتى سبق الدلاج إلى هناك، وما زال طعم “الأوزي” تحت أسناننا، لكن الدلاج كتب آخر نص يقول فيه “اشتهيت الصهيل يعبر قلب الريح، لكنهم طمروني..  فسلام على جثتي لحما شهيا للناهشين من الضباع والنحل والدود، وسلام على أرض وهبتني قبرا يحط على شاهدته الحمام”.

صديقي الدلاج، أهديك أغنية فؤاد غازي التي أبكتنا ذات ليلة باردة “تعب المشوار خطواتي وخطواتك.. على وين الدرب مودينا، وعلى أي شط مرسينا.. حقك يا دنيا علينا، بكّرت وأحنا تمسينا”.

20