تعاون سوري - تونسي يقدم مزيجا من الموسيقى العربية والغربية

في الموسيقى آفاق حياتية وحضارية يمكنها أن ترسم في الواقع فنا يتجاوز الحدود. وهي من الفنون التي طالما قدمت متسعا للمبدعين ليقدموا أفكارهم وقيمهم بكثير من المحبة والتآلف مع الآخر المختلف. في أوبرا دمشق التقى الفن السوري بالتونسي لتقديم نفحات من الموسيقتين العربية والغربية.
دمشق - يتماهى الإبداع التونسي مع السوري في تقديم موسيقى عالمية في أوبرا دمشق، على أنغام مؤلفات الموسيقار الشهير فولفغانغ أماديوس موزارت. الحفل قدمته على مسرح دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) الفرقة الوطنية السيمفونية السورية بقيادة المايسترو التونسي فادي بن عثمان ومشاركة عازف الكلارينيت يوسف المسعودي من تونس ومغنية السوبرانو السورية رشا أبوشكر.
ويسجل المايسترو بن عثمان ثاني ظهور له مع الفرقة السورية، فقبل عدة أشهر قاد بن عثمان ذات الفرقة في حفل في دمشق. أما في هذا الحفل فقدمت عدة أعمال للموسيقار العالمي موزارت. كانت البداية مع كونشرتو الكلارينيت الشهير المصنف 622 الذي وضعه المؤلف عام 1791 في المرحلة الأخيرة من حياته. وقدم فيه ثلاث حركات؛ الأولى سريعة ثم بطيئة ليقدم مجددا حركة سريعة، وبناها على إيجاد صيغة حوارية متداخلة بين الفرقة السيمفونية وآلة الكلارينيت.
قدم الكونشرتو في أوروبا منذ ذلك الحين مرات كثيرة ولاقى تقبلا واسعا لدى الجمهور، وهو أحد أعمال الكلارينيت الهامة. وعبر زمنه المتدفق بالموسيقى غير المرتجلة، قدم العازف التونسي يوسف المسعودي جهدا متناغما مع الفرقة والمايسترو، وصل بالحالة الموسيقية عامة إلى انسجام تام بينهم.
نال مؤلف كونشرتو الكلارينيت القسم الأول من الحفل كاملا، أما القسم الثاني فقدم فيه مقطعين من الأوبرا. كان الأول افتتاحية “الاختطاف من السراي”، أما الثاني فكان بمرافقة مغنية السوبرانو رشا أبوشكر، حيث قدمت جزءا من أوبرا “أيدومينيو” لتعود الموسيقى إلى ختام الحفل بتقديم سيمفونية موزارت رقم 34 التي ضمت حركات ثلاثا.
مكانة مميزة
ينظر فادي بن عثمان إلى موسيقى موزارت على أنها تتميز بمكانة خاصة وهندسة متميزة في عالم الموسيقى الكلاسيكية، ويقول “هي موسيقى تقوم على بناء محكم متين يتميز بالثراء في الخيال الموسيقي والذكاء في الانتقال بين الجمل الموسيقية، هذا ما يوحي في البداية بأنها موسيقى سلسلة وسهلة، لكن التمعن في معانيها وكيفية بدء العزف فيها والانتهاء فيه سيحيلنا إلى التأكد بأنها موسيقى راقية، منظمة ومحكمة”.
ويبرز الموسيقي فادي بن عثمان في المشهد التونسي كإحدى الطاقات الحيوية التي تشكل حضورا لافتا، درس الموسيقى في مصر على يدي الموسيقار المصري راجح داوود مؤسس أوركسترا الهناجر للوتريات وصاحب التآليف الموسيقية الهامة لعدد من الأفلام المصرية الهامة منها “الكيت كات” و”الراعي والنساء”. وتابع بن عثمان دراسته في تونس وفرنسا. وهو الآن يدير الأكاديمية الموسيقية للأوركسترا السيمفونية التونسية والجوقة البوليفونية. حاز على درجة الدكتوراه في الموسيقى من المعهد العالي للموسيقى في تونس عام 2017. قدم منظورا متميزا في المشهد الموسيقي في تونس من خلال بعض الأبحاث الموسيقية التي كتب فيها عن فيلم “الآخر” للمخرج المصري يوسف شاهين وكذلك فيلم “الرسالة” للمخرج مصطفى العقاد، كما أعد دراسات عن أعمال الموسيقي المصري عمر خيرت.
قدم في الجانب الإبداعي مشروعا موسيقيا مزج فيه بين الموسيقى العربية والغربية حمل عنوان “عطر الياسمين” المستوحى من نصوص نزار قباني وسارة مفتاح وأيمن حسن. وهو يقوم على “مزج الموسيقى العربية والأوروبية في شكل موسيقي جديد، بحيث كانت الألحان عربية خالصة لكن أسلوب الكتابة فيها كان أوروبيا معتمدا على الأساليب العلمية المتبعة في الكتابة العالمية في الهارموني والكونتر بوان، والهدف من ذلك إيجاد موسيقى جديدة تناسب كل العصور وتتفاعل مع أكبر شريحة ممكنة من الأمزجة”.
وعن عودته إلى سوريا لتقديم حفل ثان له خلال فترة وجيزة بين بن عثمان أن “الفكرة هامة وهي تهدف إلى دمج الفن السوري والتونسي معا، الحفل الأول كان ناجحا وتمنيت أن يكون هنالك نشاط آخر في سوريا وفعلا تحقق الأمر بمشاركة ثانية لي مع فنان تونسي آخر وكذلك فنانة من سوريا، كل ذلك أضفى المزيد من التألق على الحفل، الرغبة كانت متبادلة بين الطرفين لتكرار هذه التجربة. حضر في المشاركة الثانية مدير الأوركسترا السيمفوني التونسي يوسف المسعودي وشارك في الكونشرتو الخاص بالكلارينيت والأوركسترا”.
لم يكن المايسترو فادي بن عثمان التونسي الوحيد في الحفل، بل حضر عازف الكلارينيت الشاب يوسف المسعودي الذي ذاع صيته في المشهد الموسيقي التونسي وهو يقدم في حفلات محلية وجولات عديدة بين موسيقى عالمية ومحلية بروح تحمل الجديد والمميز.
قدم المسعودي دوره في حفل أوبرا دمشق في ظهور أول له أمام الجمهور السوري، قدم فيه كونشرتو صعبا لقامة موسيقية كبيرة. وهو يتابع صعوده في تقديم المميز والصعب على مسارح العالم، والمسعودي يشغل حاليا منصب مدير الأوركسترا السيمفوني التونسي.
ومع بن عثمان والمسعودي، ظهرت مغنية السوبرانو السورية رشا أبوشكر التي قدمت جزءا في الحفل. وهي ترى أن فن الأوبرا الذي قدمته يقربها من الجمهور أكثر، وتؤكد أنها أحبت هذا الفن لأنها وجدت أنه يشبه شخصيتها وبأنها “تساهم في الترويج الفني له بين جمهور عربي لا يعرف هذا الفن الكثير. فالبعض منه يأتي لاكتشافه وبعض آخر ولو كان أقل عددا يأتي لأنه شغوف به. وترى بأن فن الأوبرا ينقل الأحاسيس العميقة للشخصيات بطريقة عميقة ومختلفة”.
مؤسس موسيقي
عاشت الموسيقى في أوروبا تطورات جذرية مرت فيها بعدة أشكال موسيقية، فبعد عصر الباروك الذي حفل بمزاج موسيقي محدد ظهرت فيه ملامح التزيينيات الموسيقية وتعقيداتها اللحنية، انسابت لتشكل بإبداعات باخ وهايدن وموزارت المرحلة الكلاسيكية التي مهدت الطريق للموسيقى الرومانتيكية. وموزارت رغم قصر حياته الفنية كان أحد أعمدة الموسيقى الأوروبية والعالمية لاحقا في إيجاد مرحلة الموسيقى الكلاسيكية وضبط قواعدها، رغم بعض الحالات التي ظهر فيها متمردا على الأشكال الموسيقية في عصره. هايدن كان ينظر إلى موزارت على أنه الموسيقي الذي توهج ورحل سريعا وكان موهبة خارقة، بينما نظر بيتهوفن إلى الموسيقي المعاصر له على أنه موسيقي مؤثر ومعلم.
موهبة موزارت في الموسيقى رافقتها حياة شخصية قاسية، تفوق في الموسيقى وبدأ مبكرا بإجادته العزف وهو طفل على آلتي البيانو والكمان. لكنه تعرض في الآن معا إلى الكثير من الفجائع، ففقد عددا من أبنائه وهم أطفال. وكانت الفاجعة الكبرى برحيله المباغت وهم لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، ولاحقت المآسي موزارت بعد موته في يوم بارد عاصف فلم يخرج لتشييعه سوى قلة ودفن في مكان مجهول سريعا، ولم يتم التعرف على مكان قبره، ولاحقا أقيم له قبر رمزي احتفاء بمكانته الحضارية قريب مما يفترض أنه المكان الحقيقي الذي دفن فيه.
يعرفه الجمهور العربي من خلال الكثير من المقطوعات الموسيقية الجميلة التي تركها والتي دخل بعضها إلى قلب بعض الأغاني العربية أشهرها افتتاحية السيمفونية الأربعين له التي صار مطلعها أغنية للسيدة فيروز من اقتباس الأخوين رحباني وهي أغنية “يا أنا وياك”.