"تعاليل وتباريح" رحلة في أعماق النفس البشرية

طلال المعمري
عمان - تتخير الكاتبة الأردنية الدكتورة خولة الأسعد في نصوص كتابها “تعاليل وتباريح روحانية” الاقتراب من التراث والتفاعل معه بصورة مدروسة، لذا جاءت النصوص على شكل حوارات عميقة بين التلميذ النجيب وأستاذه الشيخ، حيث يطرح التلميذ سؤالا يمس جملة من الأفكار والهواجس الإنسانية، وأغلبها يتعلق بأحوال النفس البشرية وتقلباتها، وبموضوعة الأخلاق ومقاربة فهم سياقات تشكلها داخل المجتمع، ثم يأتي رد الشيخ الذي يحمل صبغة فلسفية عميقة، ودراية تأملية اكتسبها بالعلم والخبرة والتجربة.
وفي نهاية كل نص تترك الكاتبة إشارة للمتلقي تدعوه إلى التفكر والتأمل، كما لو أنها تلخص الفكرة الأساسية للنص أو الحكمة التي انطوى عليها. مثال ذلك نص “عرفان” الذي يسأل فيه الطالب شيخه “هل يستطيع العارف معرفة العرفان، والوصول إلى معرفة ما يريد بذاته؟”، فيقول الشيخ “نعم، وحبذا لو كان العلم الذي يريد أن يعرفه ينال بالعرف والنوال، والمبتغى للمريد”، فيرفع الطالب يده ملوحا، أن قد علم المبتغى، وسيأتي بما يريد، وسيحقق المرتضى، عرفا وعرفانا واعترافا بالجميل. وقد ختم النص بعبارة “وللوصول مبتغيات”.
إلى جانب ذلك، تستخدم الأسعد في كتابها، الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” (2025)، الحكاية الرمزية التي شاعت في الأدب قديما وأشهر كتبها “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” و”جواهر الأدب”، و”المستطرف في كل أمر مستطرف”.. وهي تؤشر على حكمة إنسانية وتعلم منظومة أخلاقية، مثال ذلك في نص “حكاية إوزة”، حيث يجلس الشيخ بوقاره كالمعتاد، وسبحته الكبيرة تتدحرج حباتها معلنة صوت البدء الصاخب حتى تتوقف، ثم يقول بصوت هادئ “سأخبرك يا بني حكاية الإوزة”.
يجلس الطالب بين يدي شيخِه وكله آذان صاغية وقلب متلهف للحكاية، يقطع تأمله صوت ضحكة الشيخ مستذكرا حكاية الإوزة الكبيرة مع صويحباتها الأخريات وهن يتبادلن النظرات للحديث عن ريش إحداهن بعد أن تلون بالزهو والكبرياء؛ لقدرتها على معرفة ما يجول بخاطر الجميع، فقط تنظر إلى أعماقهن فتقرأ لهن ما يعلق بالدواخل سريعا، وتتكشف أمورهن كلها. حاولت الإوزات ضم أجنحتهن سريعا إلى صدورهن لتغطية سبر الأعماق، وهرولن موليات، لتقرأ لهن أخرى فنجان قهوة الصباح، وكانت الجملة الختامية في هذا النص هي “وللحظوظ وكشف النوايا طرقات”.
وحرصت الكاتبة على الحفاظ على روح الجملة التراثية وتركيبها، حيث كثرت في النصوص الطباقات والمترادفات والسجع والرمز والعبارات التي تحمل في طياتها إشارات فلسفية تنظر إلى الوجود من منظور عام. وفي أغلب النصوص حضرت الرؤية الفلسفية الشفافة للحياة ولمجريات الكون التي تنعكس على الروح البشرية وتصنع تقلباتها، ولم تكن هذه الفلسفة تنطوي على تعقيد أو إبهام، لأن الإطار الذي اختارته الكاتبة هو حوار بين طالب علم ومعلم يشرح بروية وتفصيل.
كما جاءت النصوص قصيرة وسريعة الإيقاع لتبعد الملل عن المتلقي وتقوده إلى فكرتها من غير إسراف أو تقتير، ففي نص “خداع المسافات”، يكتب الطالب عبارة “كيف أنت؟ أين أنت مني؟ أحاول أن أجد الجواب، لكن لا أستطيع”. ويترك القصاصة الورقية لأستاذه ليشعره بأنه يشعر بالضياع، بعد أن قرأ كتاب “الكذب”.
يناديه الشيخ المبجل مبتسما “بني اقترب، المسافة التي بيني وبينك ليست حقيقة، وهذا أول اليقين”. يتفاجأ الطالب وهو يقوم بقياس المسافة بشبره المتوتر الراجف، ويقول “لكنني أستطيع قياسها، بحقائق ملموسة”، يقول الشيخ “وهذا واقع أنت تصنعه، لا حقيقة، فلو كنت بجانبي لكنني لا أجدك معي، ولا أشعر بك، ولا أتفاعل معك، إذن أنت بعيد بعيد مني، في مهاوي البعد العميقة، حتى لو كنت بجانبي وكتفك بكتفي، أنت بعيد عن قلبي وعن ذهني، بعيد عن أحاسيسي ومشاعري، بعيد عن عالمي، وحينها لا يقربك مني، لا فيزياء الطبيعة ولا كيمياء الشعور، ولا قوانين الجذب والطاقة، فقلبك يا بني هو بوصلة اليقين، وروحك يا ولدي هي نور اليقين”.
يبدو الكتاب بنصوصه التي جاوزت الستين نصا توزعت على 123 صفحة من القطع المتوسط، رحلة ثرية بالتعلم والمعرفة والتأمل والتفكر، وتنطوي على الطرافة والمتعة المستمدة من طبيعة الكتاب السردية التي تستثمر الحكايات القديمة بما تحمله بين طياتها من حكمة إنسانية، وتعتمد على شكل هو أقرب إلى قصة تقوم على الحوار بين طرفين، إلى جانب العناية باختيار عناوين جاذبة واختتام كل نص بعبارة دالة.
نقرأ على الغلاف الأخير للكتاب “بلغة خاصة وبتعبير سلس وطرح بسيط، تسلط د. خولة الأسعد الضوء على ما يسكن النفس البشرية من هواجس وتساؤلات ورغبات وأفكار وإكراهات وتحديات وتناقضات داخلية، تتجلى في علاقاتنا الاجتماعية التي تهيمن عليها التقلبات السريعة والمفاجئة بصور وتمظهرات شتى من قبيل؛ الحب والكره، الربح والخسارة، الفرح والحزن، الصدق والكذب. هذه النصوص ليست مجرد خواطر، إنها سفر ورحلة تأملية متخيلة، تغوص في أعماق النفس البشرية لاستكشاف مكنوناتها وخفاياها واستجلاء نواقصها وإبراز خيرها وفضح شرورها. وهي تجسد سعي الكاتبة إلى فهم المنطق الذي يجمع بين هذه المتناقضات، وصولا إلى معادلة أخرى أكثر اعتدالا وروحانية وحكمة، تنير للنفس البشرية الطريق نحو الخير بمفهومه الإنساني العام والشامل“.