تشكيلي تونسي يكسر في لوحته الحواجز بين الفنون

يعلم التشكيلي التونسي إبراهيم العزابي أن جناحا واحدا لا يكفيه للطيران والتحليق بعيدا، لذا اختار أن يخترق كل الحواجز الفاصلة بين الفنون، ليعيش مع الشعر، ومع الأساطير ومع الحكايات، ومن كل هذا ابتكر ولا يزال يبتكر لوحاته الداكنة الألوان، المفعمة بالرموز حول مختلف تجليات الواقع والحياة، والفنون بمختلف أنواعها.
الجمعة 2017/06/30
إبراهيم العزابي يستلهم من الشعر والأغاني ألوانه

تونس - يعيش ويعمل الفنان التشكيلي التونسي إبراهيم العزابي في قلب الحياة الثقافية والفنية في تونس منذ الستينات من القرن الماضي، وحضوره فيها وتفاعله معها مستمرّان وحماسيّان بقطع النظر عن الظروف والملابسات والعراقيل، فلا فتور ولا تقاعس ولا ملل.

وهو هنا وهناك، في الشمال الداكن الألوان، وفي الجنوب حيث يُهيمن اللون الأصفر والأحمر والبني، وهو في الشرق الحالم والغرب المعتم والغامض، وهو في الوسط حيث تنبسط السهول وتستريح الأرض، وهو على ساحل البحر، وفي الواحات المفتوحة على صحراء طالما سحرته حتى أنه ظنّ أكثر من مرة أنه ابنها، وأن مولده بمجاز الباب بالشمال الغربي لعاصمة تونس قد يكون خطأ.

وتجده أيضا على سفح جبل أجرد كذاك الجبل الذي يفصل تمغزة عن الشبيكة (جنوب تونس)، وهو مستغرق في التأمل مثل الدراويش الباحثين عن إله يخفف عنهم وطأة القلق الوجودي، وقد تفاجئه وهو يطوف مذهولا في أزقة المدينة العتيقة لتونس العاصمة في أوقات الصمت والهدوء، بل هو لا يتورع عن مرافقة الفلاحين والرعاة إلى الحقول ليكتشف معهم ألوان الطبيعة في المساحات الشاسعة، وسحر الألوان في السماء، وفي المهاوي وعلى أديم الأرض عند حلول النهار، أو هبوط الليل. في كلّ هذه الأمكنة، وفي كلّ هذه الفضاءات الواقعية والافتراضية، يتحرك إبراهيم العزابي، ويعمل، ويحلم، ويتذكر، ويجيب عن أسئلة تشغله، أو عن أسئلة يطرحها عليه المحبون لفنه، أو الرافضون له.

وما يتميّز به العزابي هو أنه قام منذ بداية مسيرته الفنية باختراق الحواجز بين مختلف الفنون، وهذا جانب مهم للغاية، ففي تونس تعوّدنا على أن يكون الفصل بين الفنون هو القاعدة الأساسية، وباستثناء محاولات مُحتشمة شهدتها فترة جماعة “تحت السور” في الثلاثينات من القرن الماضي، وفترة حركة “الطليعة” في أواسط الستينات، يمكن القول بأن الفصل بين الفنون هو السمة الطاغية على الحياة الثقافية في تونس.

الموسيقى لا تغيب عن عالم التشكيلي التونسي إبراهيم العزابي، بل تحضر بقوة هي أيضا، وانجذابه للموسيقى بدأ في نفس فترة تولهه بالشعر

والحال أن الفصل بين الفنون كان دائما وأبدا ظاهرة تدل على البؤس الذي يمكن أن تعاني منه ثقافة ما، وعلى ما يمكن أن يَسمُها بالسطحية والابتذال، وهذا ما أثبتته تجارب كثيرة في مراحل مختلفة من التاريخ البشري، أما التقارب والتلاقح بين مختلف الفنون فقد كانا ولا يزالان مصدري إلهام وخلق وابتكار وإثراء للخيال، ووسيلتين أساسيتين لتحقيق ثورة ثقافية وفنية بالمعنى العميق والأصيل للكلمة.

وأمثلة التقارب والتلاقح بين مختلف الفنون في الغرب عديدة وفي كل المجالات دون استثناء، والأمر نفسه عرفته الولايات المتحدة الأميركية، وأميركا الجنوبية، وآسيا، خصوصا في اليابان، بلاد كواباتا وكوروزاوا، أما في تونس فغياب هذا التقارب وهذا التلاقح جعل الثقافة التونسية تبدو دائما عرجاء، مليئة بالثقوب، وفقيرة وسطحية في مضامينها وأساليبها، وهو ما انتبه له إبراهيم العزابي منذ الستينات.

ومن هناك سعى العزابي ولا يزال للسباحة ضدّ التيّار، فربط علاقات مع فنانين وشعراء من الأحياء ومن الأموات، وبدأ الأمر عنده مبكرا، فقد تعرف على الشابي وهو طفل، إذ أن والده كان صديقا له في الفترة التي كان يتردد فيها على المشروحة في الجزائر للتداوي من مرض القلب الذي سيقتله، وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

وأبدع العزابي من قصائد الشابي الشهيرة مثل “نشيد الجبار”، أو “هكذا غنى بروموثيوس”، و”صلوات في هيكل الحب”، لوحات تعكس عالم هذا الشاعر المسكون برومانسية لها لون أوراق الخريف، وسماء الشتاء، كما أدمن على قراءة شعراء عرب قدماء من أمثال المتنبي، وأبي نواس، وبشار بن برد والمعري، وساعدته قراءاته لشعراء الحداثة الغربيين من أمثال بودلير، ورامبو، ومالارمي، وفرليين وآخرين على توسيع آفاقه الفنية ليكتشف أن الألوان وحدها ليست كافية ليكون للوحاته معنى عميق ومضمون متميّز.

ومن “ألف ليلة وليلة” غرف أيضا، وهذا ما تشهد به لوحته الجميلة “مدينة الأحلام”، ولم يقتصر على ذلك، بل اطلع أيضا على الملاحم مثل ملحمة كلكامش، والأوديسه لهوميروس، وغاص في عالم الأساطير اليونانية ليكون كل هذا مادة لعالمه الفني.

ولم يترك إبراهيم العزابي الواقع اليومي لأصحاب القلم، أو لأصحاب الكاميرا، بل اقتحم هذا الواقع ليعبر عنه من خلال ألوانه الحزينة الداكنة، وهي الألوان المفضلة لديه، وهذا ما فعله مع أحداث سياسية واجتماعية.

ولا تغيب الموسيقى عن عالم التشكيلي التونسي، بل تحضر بقوة هي أيضا، وانجذابه للموسيقى بدأ في نفس فترة تولهه بالشعر، فقد عشق المالوف، والأغاني التونسية والشرقية على حد السواء، أغان ساعدته على بلورة أسلوبه في الحياة وفي الفن.

17