تشبيك السرعة القصوى

أن يبدأ وزير الخارجية التونسية خميس الجهيناوي جولة الدعوات العربية للقمة القادمة في تونس، عبر السعوديّة، وأن يؤدي رئيس الحكومة يوسف الشاهد زيارة مطوّلة إلى العاصمة الرياض التقى خلالها العاهل السعودي في مرحلة أولى وبرجال الأعمال السعوديين في مرحلة ثانية، فهذا دليل على أنّ العلاقات التونسية السعودية دخلت مرحلة التشابك بعد عقود من التقارب.
وما كان ليوسف الشاهد وللفريق الحكومي المرافق له في السعودية أن يحظى بذلك الترحيب، لولا الإدراك العميق من الرياض بقيمة تونس، ولولا الإيمان الكبير من الدولة التونسية بالدور المؤثر للسعودية في مجمل القضايا، وبوعي الطرفين بضرورة إحداث القفزة اللازمة في العلاقات الثنائية.
يبقى السؤال المحوري، لماذا الآن؟ هل للأمر علاقة بمقتل الصحافي جمال خاشقجي وبسعي الرياض لفتح اختراقات في الجبهة المعارضة لها والتي تتزعمها قطر وتركيا وجماعة الإسلام السياسيّ؟
ظاهريا على الأقل، يفرض الاستحقاق الاقتصادي مقولته كجزء منطقي من الإجابة عن السؤال. فتونس التي تئنّ تحت وطأة القروض الخارجية والتداين الأجنبي تبحث عن استحثاث فرص الاستثمار في عمقها العربي والإسلامي، وتنقب عن مجالات التعاون المشترك مع العواصم الخليجية التي لم تعط منطقة شمال أفريقيا عامة، والمغرب العربي خاصة، الأهمية المستحقة من الاستكشاف والاستثمار.
هنا، تحرّك يوسف الشاهد كرجل دولة عنوان تحرّكه الاقتصاد والاستثمار والدفع بعجلة البلاد نحو التنمية، بناء على العلاقات التاريخية بين تونس والسعودية وتأسيسا أيضا على الدور الإيجابي الذي لعبه المهندس الحقيقي للعلاقات الخارجية في تونس الرئيس الباجي قائد السبسي، بعد سنوات عديدة من الهواية الدبلوماسية والغواية الإستراتيجية للترويكا الأولى.
وأن تكون تونس -في الشكل- موحدة في الدبلوماسية الاقتصادية والسياسية في حقول الألغام الحالية، وهي داخليا منقسمة على أكثر من عنوان واستحقاق، دليل على أنّ هناك حدا أدنى من الوعي والمسؤولية لدى الفرقاء بالإمكان البناء عليه مستقبلا لحلّ الاستعصاءات في المشهد السياسي التونسي.
وبمنطق الحدّ الأدنى من السياسة والحدّ الأقصى من السياسة الاقتصادية تصرّف الشاهد الذي أطلق دعوة رسمية لرجال الأعمال السعوديين للاستثمار في تونس على ضوء التسهيلات الإدارية والجمركية والضريبية في مجلة الاستثمار الجديدة.
تنطلق المقاربة السعودية لتونس من زاويتين على الأقل. الأولى الدور التونسي في ليبيا والذي يمثل البوابة الأهمّ لمن يسعى إلى التأثير في المجال الليبي، هكذا تفعل تركيا منذ مدّة وهكذا يبدو أن السعودية تفكّر في الأمر. أما الثانية فهي الدور التونسي المؤثر في مجلس الأمن الدولي في حال ظفرت تونس بمقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي خلال العهدة الأممية القادمة.
تجسّد ليبيا بالنسبة للسعودية بيضة القبان في مكاسرتها ضدّ إيران، فبعد أن استفرغت السعودية إمكانياتها النفطية لزيادة العرض قصد تخفيض الأسعار، وبعد أن رفضت الكويت لعدة أغراض الزيادة في حصتها الإنتاجية، يبدو أن ليبيا باتت اليوم الدولة الأكثر ترشيحا للعب دور إغراق السوق النفطي، نظرا للقيمة الإنتاجية لحقولها النفطية من حيث الكمّ والجودة.
هنا بإمكان تونس أن تؤدي دورا في إقناع الأطراف الليبية، التي تحافظ تونس حيالها على نفس المسافة تقريبا، بالانخراط ضمن هذه المقاربة الإقليمية.
صحيح أنه دون هذه المقاربة، هناك عوائق من حيث ضرورة إشراك الشركات الأجنبية الإيطالية والفرنسية العاملة في ليبيا في هذا المسار، إضافة إلى الرفض الذي قد تبديه بعض الأطراف السياسية الليبية خاصة في منطقة الغرب، وصحيح أيضا أن التشابك التونسي السعودي المتزايد قد يثير حفيظة أكثر من جهة سياسية في تونس، ولكن قد تكون هذه هي الضريبة المقبولة من قبل الفاعل الرسمي، ونعني هنا الرئيس السبسي ويوسف الشاهد، لاستحثاث الاستثمار وإخراج البلاد من عنق الزجاجة.
في سياق آخر، تضع السعودية نصب عينها الحروب الدبلوماسية التي قد تخوضها في مجلس الأمن الدولي على غرار الحرب في اليمن أو الموقف من مستقبل الوضع السياسي في سوريا، أو الأزمة في الخليج، وفي كلّ هذه الملفات تريد الرياض تأمين الخزان الاستراتيجي والدبلوماسي لدعم مواقفها أو على الأقل تحييد الأصوات الرافضة لها.